يسألُ كثيرٌ من القضاة الغيورين على دينهم ووطنهم، من الذين يرون ما جرى في مصر في الثالث من يوليو 2013م انقلاباً عسكريا، وإهدارا للدستور والقانون والإرادة الشعبية، يستفتون – حقيقةً لا افتراضًا – عن حكم مشاركتهم في الإشراف القضائي على الاستفتاء على الدستور الجديد المصنوع بأيدي هؤلاء الانقلابيين- 2013م، ويقولون: أليست مشاركتُنا في هذا الإشراف اعترافاً بالانقلاب العسكري، ومشاركةً في الجريمة، وإسهاما في الانقلاب على الشرعية، وقتلِ الأبرياء من أبناء الشعب، وإدخال البلد في نفق مظلمٍ ،كلُّه ظلم وقهر ومصادرة للحريات؟.
قالوا: وإذا اعتذرنا عن عدم الإشراف فسوف يقومون برصدنا وتتبعنا، ومن المحتمل في النهاية أن نحال للصلاحية، ونفصل من العمل عبر تلفيق التهم بالباطل الذي عرفوا به… فما الحكم الشرعي لمشاركتنا في الإشراف القضائي على هذا الاستفتاء من عدمه؟.
الجواب:
نقول :الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد،
فلا شك أن ما جرى في مصر في الثالث من يوليو 2013م هو انقلاب عسكري مكتمل الأركان على رئيس منتخب من الأمّة انتخابا حرًّا نزيهًا، وله في عنق الشعب بيعة بأربعة أعوام، وقد تأكد هذا في الدستور المستفتى عليه 2012م؛ حيث أكدت الأمّة بيعتها وجددتها للحاكم المنتخب بموافقة 64% على الدستور. وهذا ما عليه علماء الأمة السادة الأبرار من أمثال: فضيلة الأستاذ الدكتور حسن الشافعي، والأستاذ الدكتور محمد عمارة، وكذلك الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وجبهة علماء الأزهر، ورابطة علماء أهل السنة، وستة وخمسين عالما سعوديا في بيان شهير صدر في أغسطس الماضي، وغيرهم.
وقد ترتب على هذا الانقلاب مجازر لم تحدث في تاريخ مصر، ولا في تاريخ البشرية، ودخلت مصر – رائدة العرب والمسلمين – في عزلة دولية، وتعطلت المصالح، وصودرت الحريات التي هي أعظم مكاسب الشعوب من ثوراتها، وتضاعف القهر، والكبت، والاعتقال التعسفي، والمحاكمات الهزلية القائمة على تهم ملفقة، وستظل مصر تتراجع إلى الوراء في المجالات جميعا ما دامت البلاد تحكم وفق هذا الانقلاب بالقهر والسلاح، بل وبالحديد والنار!
من القرآن الكريم:
وبناء على ما سبق فإن المشاركة في أي عمل من شأنه أن يقوي هذه السلطة أو يمنحها شرعية أو يطيل أمد وجودها أو يقوي شوكتها يعد من التعاون على الإثم والعدوان، وهو عمل مُحَّرمٌ – في الأصل – شرعا، ومجرم على جميع المستويات قانونًا، والله تعالى يقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ". سورة المائدة: 2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :إن التعاون نوعان، وذكر أن النوع الثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك؛ فهذا الذي حرمه لله ورسوله". [السياسة الشرعية: 66]. وفي المشاركة في الإشراف معاونة على الاستمرار في سفك الدماء المعصومة التي نراها كل يوم، وضرب من لا يستحق الضرب! ومطاردة كل صاحب رأي مخالف، ولو كان مُحقًّا.
وقال تعالى: "وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ". سورة هود: 113. وتحريم الركون إلى الظالمين شريعة مقررة في جميع الرسالات، قال تعالى على لسان نبيه موسى – صلى الله عليه وسلم – محذراً من مساعدة الظالمين: "قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ". سورة القصص: 17. ذلك أن الدخول في أعمال الظالمين على أي وجه، وفي أي سبيل مُؤْذن بغضب الله المؤدِّي إلى عذاب النار، وبئس المصير! . يقول تعالى في مشهد من مشاهد القيامة حيث يتخاصم التابعون والمتبوعون، والضعفاء والمستكبرون: "وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ". سورة إبراهيم: 21. وقال تعالى مبينا أنهم جميعاً من أهل النار: "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ". سورة غافر: 47-48.
من السنة النبوية:
وروى البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة". [صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب. باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسلمه].
قال ابن حجر: "أسلم فلان فلانا إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة. قوله: "المسلم أخو المسلم" هذه أخوة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر والعبد والبالغ والمميز. قوله: "لا يظلمه" هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله: "ولا يُسلمه" أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه". [فتح الباري: 5/ 97].
وعن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون أمراء، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد على حوضي، ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ويرد على حوضي". [النسائي في سننه الكبرى ج5/ص231 ح8758].
وفي مشاركة القضاة بالإشراف على الاستفتاء على هذا الدستور، استمرارٌ للظلم والقهر وتقوية له مع تسويغ ما يترتب عليه من مصادرة لبقايا الحريات، وتعقيد للأزمة، وتأخير وتقزيم لمكانة مصر؛ لأنه لا تزدهر البلاد إلا في ظل الحرية .. كما أنه إسهام في استمرار الاعتقالات الظالمة، والتعسف في المحاكمات الهازلة، وتلفيق التهم الباطلة، ولا يوجد في عصرنا هذا صورة لأبشع الجرائم أكبر من هذه الصورة لإسلام المسلم أخاه المسلم وظلمه إياه!
من أقوال السف:
وقد قال غير واحد من السلف: "أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنه لاق لهم دواة، أو برى لهم قلما، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم- هو – من أعوانهم".[مجموع فتاوى ابن تيمية: 7/ 64].
وكان سفيان الثوري ينهى عن إيقاظ أحد من أعوان الظلمة للصلاة!!، لما يخشى من تسلطه على الناس بالظلم . [فتح الباري لابن رجب: 3/ 198]. فما بالك بمن يُسهم في تمكينهم وتقوية شوكتهم؟!
وكان سعيد بن المسيب يقول: "لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة". [صفة الصفوة لابن الجوزي: 2/ 80].
***
هذا هو أصل الحكم الشرعي في هذه المسألة، وهو الحرمة؛ لأن فيها عونًا واضحًا للمتجبرين، وتعاونًا ظاهرًا على الإثم والعدوان، وهو الذي نهى عنه الله ورسوله.
من المعقول:
ويسع القاضي أن يعتذر عن عدم الإشراف بالأعذار الصحيحة قانونًا، إذا غلب على ظنه السلامة منهم؛ حتى لا يشارك فيما أشرنا إليه قبل قليل.
أما إذا كان اعتذار القاضي سيترتب عليه التتبع والرصد والوضع تحت المراقبة بما يفضي في النهاية إلى التحقيق معه، وإحالته للصلاحية، وفصله من عمله بتلفيق التهم والتعسف الذي نراه مع قضاة آخرين، فإن هذا كله – واليقين لا يزول بالشك – من باب الظنون التي لا يُدفع بها اليقين، الذي هو تحقق المفاسد، والقاضي ليس أرفع شأنًا من أبناء مصر من ذوي المكانة المطاردين بسبب قولهم الحق والوقوف بجانب أهله، من الأطباء والمهندسين والمدرسين، والأساتذة الذين تقتحم عليهم قاعات الدرس في الجامعات، بل والقضاة أخيرا – كما حدث مع المستشار نائب رئيس محكمة النقض السابق الأستاذ محمود الخضيري.
ونحن في موقف لا نقبل فيه من القضاة الترخص لدينهم ووطنهم وتاريخهم المجيد، خاصة أن مثل هذا الحال الانقلابي لا رجاء في بقائه حتى نقول للقاضي الخائف إنه يسعه في هذه الحالة أن يحضر الاستفتاء مكرهًا غير متجانفٍ لإثم، ولا باغٍ ولا عادٍ، فإن للمكره أحكامًا تختلف عن أحكام الحر المختار، وقد أجاز الله تعالى التلفظ بألفاظ الكفر حال الإكراه، وذلك في الأحوال الخاصة فقط، ولا يصح سحبها على القضايا العامة التي تكون الأمة كلها متضررة منها.
على أن دستور 2013م باطل، ولجنته باطلة كما هو معلوم، وما بني على باطل فهو باطل، والدستور الصحيح معطّل، وهذا افتئات على رأي الأمّة في الدستور الشرعي، ومصادرة له حتى ولو صوتت أغلبية بنعم على الجديد، فالأغلبية الحقيقية مُقاطِعة، فما فائدة المشاركة في مهزلة وعمل عبثي؟! حتى لو مُرر فستظل ثلمة كبيرة لا تسد: أن الناس قاطعوا، وأن القضاة الشرفاء قاطعوا.
والقول بأنّ المشاركة قد تمنع التزوير، نقول: لن تمنع بحال، وما يراد تمريره فسيمرر. لكن لا ينبغي أن يُمرر عن طريق الشرفاء من القضاة، فإن الذي قتّل وحرّق وأتلف ولفّق القضايا هل سيتورع عن التزوير؟.
ولو أتت فرصة للتطهير – وهي آتية لا ريب فيها – فسيعود كلُّ مَنْ فُصل من عمله، وإذا لم تأتِ – لا قدر الله! – فلن يستطيع الموجود على رأس العمل أن يفعل شيئا، ولْيُفتِ نفسه من شاء بما شاء، وأهل القضاء ينبغي أن يكونوا من أهل العزائم، ومن رجال الصدع بالحق، وتحمُّل تكاليف المواقف .. أما أن يموت الناس في الشوارع، والطلاب في المدرجات، والأساتذة في ساحة الجامعات، ثم يقول القاضي: "أشارك حتى أكون – إن شاء الله – في التطهير"؛ فهو قول يحتاج إلى تطهير!.
"قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖوَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖفَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ". سورة التوبة: 52.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دكتوراة في مقاصد الشريعة الإسلامية*