في الثاني والعشرين من نوفمبر من عام 2012، أصدر الرئيس المصري السابق محمد مرسي إعلاناً دستورياً، تصبح بموجبه قراراته محصنة من الطعن أمام القضاء. أغضب المرسوم القوى السياسية المحلية، التي اتهمت مرسي بالسعي لإقامة حكم سلطوي وأخيراً مهد الطريق أمام الإطاحة به وإنهاء التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013.
ما حدث في تونس في الخامس والعشرين من يوليو من هذا العام أسوأ من ذلك بكثير، وذلك حينما قرر الرئيس التونسي قيس سعيد تعليق البرلمان المنتخب، ورفع الحصانة البرلمانية، وإقالة الحكومة، وتعيين نفسه مدعياً عاماً، والتهديد بمعاقبة كل من ينتهك هذه الإجراءات. وفي اليوم التالي تم فرض حظر التجول وتعرضت وسائل الإعلام، بما في ذلك مكاتب قناة الجزيرة في تونس، للاعتداء.
منذ أن اتخذ سعيد هذه الإجراءات والآراء في الميدان منقسمة، فهناك من يعتبرون أن تحركات الرئيس تهدف إلى تصحيح مسار الثورة التونسية التي انطلقت قبل عشر سنين وأنها سوف تنقذ البلد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تمر بها حالياً. إلا أن آخرين يرون فيما جرى انقلاباً دستورياً على الثورة، حيث أنه منح صلاحيات استثنائية للرئيس، يصعب لأسباب كثيرة اعتبار ما أقدم عليه الرئيس وسيلة لتصحيح مسار الثورة.
فهو أولاً اعتدى على أهم مكتسبات الثورة: تمثيل إرادة الشعب من خلال مؤسسات منتخبة مثل البرلمان والحكومة. فالبرلمان الذي تم تعليقه إنما جاء عبر انتخابات حرة ونزيهة جرت في عام 2019 صوت فيها 41.3٪ ممن يحق لهم الاقتراع.
وثانياً، لم يمكن للرئيس أن يصلح مسار الثورة من خلال منح نفسه صلاحيات واسعة يصبح بسببها مهيمناً على المشهد السياسي بأسره، في ضوء غياب البرلمان والمحكمة الدستورية. ولذلك، لا يوجد أي نوع من الرقابة عليه، ولا يملك أحد محاسبته على قراراته وأفعاله.
وثالثاً، وذلك هو الأهم على الإطلاق، اتخذ سعيد خطوات تتعارض مع الدستور التونسي. فبينما برر إجراءاته الأحادية باعتبارها تتم وفقاً للمادة 80 من الدستور، والتي تشترط أن إجراءات استثنائية يمكن أن تتخذ في حالة الخطر الداهم الذي يهدد كيان البلاد وأمنه واستقلاله، فإنها تشترط أيضاً أن يبقى البرلمان منعقداً طوال هذه الفترة.
كما أنه ضروري بموجب الدستور التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، ولم يحدث ذلك بتاتاً كما صرح بذلك رئيس البرلمان راشد الغنوشي، حيث أن سعيد علق البرلمان في انتهاك صارخ للدستور.
وأخيراً، لا ينبغي ادعاء دعم الثورة من خلال تقويض الحياة الديمقراطية، وإنما من خلال المزيد من الإجراءات الديمقراطية التي يمكن أن تضمن عدم هيمنة أي من السلطات على الأخرى وعدم الاعتداء على إرادة الشعب أياً كانت المبررات.
صحيح أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية في تونس وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور، وخاصة في ظل تداعيات كوفيد-19 والعدد الكبير من الإصابات والوفيات. ولكن لا يجوز بحال أن يتم التعامل مع ذلك من خلال تقويض مؤسسات الدولة، وإنما من خلال دعمها وتعزيزها لمواجهة هذه الأزمة.
واقع جديد
يصعب وصف ما أقدم عليه سعيد يوم الخامس والعشرين من يوليو بأي شيء سوى أنه انقلاب ضد التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس، وانقلاب ضد الدستور الذي أجرى الشعب التونسي بشأنه استفتاء في يناير / كانون الثاني من عام 2014. لقد استغل الأوضاع المتردية في تونس لكي يؤسس لواقع جديد، تصبح فيه الرئاسة صاحبة اليد العليا وليس البرلمان والحكومة.
لقد استغرق الإعداد للانقلاب شهوراً عديدة، سواء من خلال الصدام المستمر بين سعيد والبرلمان والحكومة أو من خلال تعطيله لقرارات البرلمان وتشريعاته التي سد الأبواب في وجهها، كما حدث في حال قانون تشكيل المحكمة الدستورية على سبيل المثال.
في شهر مايو من هذا العام، كشف موقع ميدل إيست آي عن وثيقة مسربة تشير إلى أن الرئيس التونسي كان يخطط للقيام بانقلاب دستوري لصالح الرئاسة، وبأنه كان سيقدم على اعتقال عدد من المعارضين السياسيين، وخاصة من داخل حركة النهضة. ما ورد ذكره في الوثيقة تحقق على أرض الواقع بعد شهرين من تسريبها.
يسعى سعيد بكل ما أوتي من قوة لتغيير ميزان القوة في تونس ولإعادة تحديد قواعد اللعبة السياسية حتى تكون للرئيس اليد العليا وليس لأي من المؤسسات الأخرى. فمنذ وصوله إلى السلطة لم يكن مقتنعاً بطبيعة النظام السياسي في تونس، وهو نظام يوزع الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان والحكومة.
فقد حال دون تشكيل حكومتي إلياس فخفاخ وهشام مشيشي أكثر من مرة. كما عبر، في أكثر من مناسبة، عن عميق سخطه و “تقززه” من الطبقة السياسية في تونس وتمنى التخلص منها بأي طريقة ممكنة، حيث اعتبرها عقبة في طريق إنجاز برنامجه الإصلاحي.
صلة الإمارات العربية المتحدة
سوف يرى كل من يرصد خطاب سعيد السياسي وسلوكه منذ أن جاء إلى السلطة في أكتوبر 2019 أن مشروعه ما هو سوى مشروع سلطوي جديد في المنطقة، وأنه يسير على خطى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي قاد الانقلاب في 3 يوليو / تموز 2013 – الذي أطفأ جذوة التجربة الديمقراطية في مصر – وارتكب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان.
لربما ما كان ينبغي أن نستغرب زيارة سعيد إلى القاهرة ولقاءه بالسيسي في إبريل عندما عقد الاثنان لقاءات حصرية ليس لدى أحد معلومات عما جرى فيها. والأكثر من ذلك، بصمات الإمارات العربية المتحدة في انقلاب سعيد واضحة لا تخفى على أحد، سواء من حيث الشكل أو المضمون.
على مدى السنوات القليلة الماضية، سعت الإمارات العربية المتحدة بلا هوادة لتخريب الثورة التونسية، بل لقد اتهمها الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي بمحاولة زعزعة البلاد. إضافة إلى ذلك، وطبقاً لتقارير صحيفة، أطلقت الإمارات العربية المتحدة حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة الغنوشي وعزل حزب النهضة.
كما ساعدت بعض السياسيين المرتبطين بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي على تخريب العملية السياسية، وخاصة داخل البرلمان، وتعطيل أعماله حتى يبدو بلا حول ولا قوة أما الجمهور.
إن الانقلاب على الإسلاميين في الشرق الأوسط هو الهدف الاستراتيجي لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، الذي ينفق المليارات لدعم الأنظمة السلطوية في العالم العربي. تحاول الإمارات العربية المتحدة إعادة إنتاج تجربة “الرجل القوي” والحاكم السلطوي في تونس كما فعلت من قبل، ومازالت، مع السيسي في مصر ومع خليفة حفتر في ليبيا.
بالإضافة إلى ذلك، يقرأ سعيد من نفس نص الطغيان والانقلاب. فهو يستخدم نفس اللغة ونفس الأساليب التي استخدمها السيسي للوصول إلى السلطة – ومن أهمها على الإطلاق استخدام الخطاب الشعبوي واستغلال الأوضاع المتردية اقتصادياً واجتماعياً لتبرير الإجراءات الاستثنائية. تتضمن تلك الوسائل الاستثمار في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتشويه الخصوم الأيديولوجيين (وخاصة الإسلاميين)، والتهديد باستخدام القوة والأسلحة في مواجهة من ينتهكون القواعد، والتحالف مع قوى معادية للثورة، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
على الرغم من الاختلافات بين الحالتين المصرية والتونسية، فإن الغاية واحدة: ألا وهي تعزيز صورة الحاكم القوي الذي بإمكانه أن يحكم منفرداً دون الحاجة لأي مؤسسات. ينبغي تذكر أن تاريخ تونس مع الانقلابات والنظم الاستبدادية السلطوية أطول من تاريخها مع الحكم الديمقراطي.
فقد حكم الحبيب بورقيبة البلاد من منتصف خمسينيات القرن العشرين حتى نهاية الثمانينيات من خلال نظام سلطوي قمعي. وفي 1987، انقلب بن علي على بورقيبة، الذي كان مريضاً حينذاك. واستولى على السلطة وأقام واحداً من أشد النظم قمعاً وسلطوية في المنطقة العربية إلى أن أطاحت به ثورة الياسمين في عام 2011.
ولذا، لم ينبغي أن يكون مستغرباً أن يسعى سعيد إلى العودة بتونس إلى نفس الطريق القديم ويقيم حكماً سلطوياً؟