فوجئت قطر، التي تملك شبكة «الجزيرة» الناجحة، بهجمة إعلامية محسوبة ضدها من دول كان يُعتقد أنها حليفة لها؛ بعد أن قادت السعودية والبحرين والإمارات حملة ضد الدوحة الأسبوع الماضي.
بدأ الأمر بسحب هذه الدول سفراءها، تبعها حصار كامل، ودعوا دولًا أخرى إلى الانضمام إليهم؛ وقدموا إلى قطر قائمة من التنازلات المطلوبة منها، بإجراء تعديل شامل على سياستها الخارجية لتتوافق مع مجلس التعاون الخليجي؛ ما يُعتبر تعديًا على سيادتها، وتدلُّ التوترات المتصاعدة على التحولات الزلزالية التي تنتشر في منطقة الخليج منذ بداية «الربيع العربي».
طوّرت قطر، التي تملك روحًا شابة ومتمردة، سياسة خارجية غير عادية، قائمة على مفهوم واقعي بأنه كلما كانت لديها تحالفات صَعُبَ غزوها. أدى الانقلاب غير الدموي الذي قام به والد الأمير الحالي إلى وضع أسس النمو السريع في قطر على أساس الاحتياطي الهائل من الغاز، الذي لم يكتف بتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية لقطر وحسب؛ ولكن عمل على تمكين الدوحة في الخارج.
تسبّب وجود أكبر قاعدة أميركية في قطر إلى تشجعيها للشروع في تطوير خطط طموحة؛ ما أثار غضب السعودية، التي رأت ضرورة التخلّص منها.
تعتبر شبكة «الجزيرة» الإخبارية تطوّرًا رئيسًا قامت به قطر، بجانب بدء استثمارات اقتصادية حثيثة عبر صندوق الثروة السيادية الذي هدف إلى تنويع اقتصادها القائم على الغاز؛ ما أتاح لها الوجود على طاولة المفاوضات الدولية للتشاور، ومكّنها من ممارسة نفوذ غير مسبوق في كل جوانب العلاقات الدولية.
استطاعت قطر أن تُذهل العالم بعد أن أصبحت أولى دولة عربية تشجّع النقاش العام في مواضيع كان يحظر مناقشتها، عن طريق استضافتها هذه المناقشات، وعبر حديث شبكة «الجزيرة» عن القضايا التي تواجه العالمين العربي والإسلامي.
تميّزت قطر عن الدول الأخرى بقدرتها على الموازنة بين علاقاتها الخارجية مع علاقات الدول الإسلامية، وسرعان ما أصبحت نموذجًا لتقارب الحضارات بدلًا من الصدام؛ وأصبح ذلك مشكلة لملوك مجلس التعاون الخليجي، خاصة السعودية التي تستغل شعوبها بدلًا من معاملتهم كمواطنين لهم حقوق.
كان «الربيع العربي» نقطة تحول هامة بالنسبة إلى قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على الصبر أمام تحدي قطر. دعمت الدوحة التظاهرات الشعبية في مصر وتونس، وبدأت تشعر بالعزل بين دول مجلس التعاون الخليجي، وفي كلتي الدولتين اللتين دعمتهما قطر رُبط بين الثورات ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة باختيار الشعوب؛ ما أدى إلى استياء الديكتاتوريين العرب.
كان دور قطر في الثورتين صغيرًا، ولكن بثّت «الجزيرة» القطرية التظاهرات مباشرة ونقلتها إلى العالم. وبعد انتخاب الحكومات بشكل ديمقراطي، أظهرت قطر دعمًا ماديًا وسياسيًا لهم. وفي الوقت نفسه، سعت أنظمة إلى تمكين الثورات المضادة والانقلابات، كانت دول الخليج تخشى من انتهاء سلطتها وإعادة إحياء أيديولوجية الإخوان.
كان الرد الفوري من الحكومات العربية، خاصة السعودية والإمارات، بقمع الجماعات التي تشبه الإخوان وإلغاء المعارضة؛ ودفعت أموالًا ضخمة لشراء الولاء، بجانب الوعود باستثمارات ضخمة لثني الدول التي تميل للإصلاح.
مع انتخاب دونالد ترامب، حاولت السعودية والإمارات إعادة تشكيل دور أميركا في الشرق الأوسط لتعزيز هيمنة السعودية، فيما يبدو أنه خطوط ما قبل «حرب الخليج». ويقود الأمير محمد بن سلمان النقاشات مع أميركا، بجانب رؤيته الطموحة في السعودية؛ فإنه ينتهج نهجًا عسكريًا قويًا ينطوي على التحركات العسكرية ضد الأعداء، خاصة إيران؛ ما قد يضع الشرق الأوسط في حالة من الاضطرابات.
في السياق نفسه، تؤكّد قطر دومًا أن العداء ضد إيران يمكن أن يزعزع استقرار المنطقة، ويمكن أن يكون هذا النهج السعودي سببًا في تأخر وصول الأمير إلى الحكم؛ حيث أدت قراراته المتسرعة إلى تورّط مجلس التعاون في حرب طويلة الأمد في اليمن، وكان لها تأثير سلبي على عوائد البترول وأدت إلى تدهور الاقتصاد.
لم تُخضع قرارات دول الخليج قطر حتى الآن؛ فعلى الرغم من أن الكتلة التي تقودها السعودية والإمارات تعتبر أنفسها محور الاستقرار في المنطقة؛ فالحقيقة أنهم وجدوا أنفسهم في مستنقع، فإما أن يستمروا في حالة جمود طويلة الأجل أو يشعروا بتحرك سيكلّف كثيرًا؛ مثل محاولة تغيير النظام في الدوحة أو التحرك العسكري ضدها.
رغم ذلك؛ إلا أن استمرار المواجهة أزعج السعوديين والإماراتيين، وبدأ المواطنون في التعبير عن تعاطفهم مع قطر؛ حيث عملت التكتيكات القمعية على تمزيق العائلات وأثّرت على القبائل، بسبب تعهد القبائل في شبه الجزيرة بالولاء لأمير قطر؛ وهو ما أدى إلى إثارة غضب السعوديين.
غياب الثقة بين دول مجلس التعاون الخليجي مرتبط بغياب الشفافية والمساءلة والمفهوم القديم بأن الشعوب يجب أن تستمر في خضوعها إلى النخبة الحاكمة، ولا يبشّر ذلك بالخير لمستقبل المجلس، وربما يؤدي إلى محاولة الشعوب إجراء تغييرات ديمقراطية في الخليج، ومع إعراض قطر عن التنازل وتردد التحالف المناهض لها في التراجع؛ فإن حلَّ مجلس التعاون الخليجي بشكله الحالي أمرٌ محتمل.