أحذّر من تعكير صفو العلاقات بين مصر والسودان، لأسباب استراتيجية في المقام الأول، وإن كنت لا أستحيي من الإشارة إلى الأسباب العاطفية أيضا.
صحيح أن بيننا مصالح متبادلة، ولكن بيننا أيضا وشائج ليست أقل أهمية من المصالح، بل قد تكون أعمق وأكبر.
على الأقل فالمصالح متغيرة وحساباتها كثيرا ما تخضع للأهواء والأمزجة السياسية لكن الوشائج ثابتة ثبات العرق والدين والعلاقات الإنسانية المتداخلة التي فرضتها الجغرافيا مع التاريخ.
ولئن كانت المصالح لها أهميتها في حسابات النخبة إلا أن الشعوب تعيش الوشائج بغير افتعال أو ادعاء.
أعني أن ما بيننا وبين السودان ليس علاقة انتفاع أو "بيزنس" فحسب، ولكنها علاقة شقيقين يتعاملان على أساس من الندية والمحبة والاحترام.
هذه المرافعة القصيرة أردت بها التذكير وتجديد الدعوة التي لا أمل من تكرارها إلى ضرورة الحفاظ على مكانة وعمق العلاقات مع الأشقاء الأقربين، جيراننا في السودان وليبيا وغزة،
مع الحفاظ على العلاقات الإيجابية مع بقية أعضاء الأسرة من الأشقاء الأبعدين في مختلف أنحاء الوطن العربي.
ما دعاني إلى التطرق لهذا الموضوع أن بعض رموز المعارضة السودانية في مكايدتهم لنظام الخرطوم أرادوا انتهاز فرصة عزل الرئيس محمد مرسي، لتوجيه ضربة استهدفت إضعاف الرئيس عمر البشير وحكومته.
ورغم أني لست في وارد الدفاع عن نظام الخرطوم فإنني أعتبره شأنا سودانيا صرفا.
والأساس الذي انطلقت منه تلك المحاولات تمثل في الترويج لفكرة الربط بين الحكومتين "الإسلاميتين" في البلدين، والادعاء بأن حكومة الخرطوم مستاءة من عزل الدكتور مرسي. وأنها تبذل مساعي من وراء ستار لحث المجتمع الدولي للتدخل لصالح إعادته إلى السلطة.
وفي رأيهم أن حكومة البشير تعتبر ما جرى في مصر في 30 يونيو (المظاهرات الاحتجاجية) وفي الثالث من يوليو (عزل الدكتور مرسي) بمثابة إعلان حرب على الإسلام السياسي، الذي تقف حكومة الخرطوم في صف الدفاع عنه.
الهدف ذاته سعى إليه حزب الشعب الجمهوري الذي يقود المعارضة في تركيا، حين حاولت قيادته استثمار أجواء عزل الدكتور مرسي وتعاطف رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان معه، استنادا إلى اشتراك الطرفين في الخلفية الإسلامية، فجاء وفد يمثل الحزب إلى القاهرة وسط أجواء التوتر مع أنقرة، لإضعاف موقف حكومة أردوغان.
رغم الاختلاف في الظروف بين الوضعين السوداني والتركي،
ورغم الاختلاف بين هوية المعارضين في البلدين، فإن القاسم المشترك بين الطرفين يتمثل في المراهنة على استخدام الخلفية العاطفية التي ربطت حكومتا البشير وأردوغان بنظام الرئيس مرسي لإضعاف موقف نظامي الخرطوم وأنقرة.
وهو منطق يغيب أولوية الحسابات الإستراتيجية الحاكمة في العلاقات الدولية في الوقت الراهن.
وهي الحسابات التي جعلت القاهرة في ظل حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك تقترح ضم تركيا كعضو مراقب في الجامعة العربية، وهي تحت حكم حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان، رغم أن نظام مبارك كانت له معركته مع الإخوان في مصر.
ليس سرا، وليس عيبا، أن تتعاطف حكومتا الخرطوم وأنقرة مع حكم الإخوان في مصر،
لكن العيب حقا أن تكون الأولوية للعواطف، وليس الحسابات والمصالح الإستراتيجية العليا في تقرير مصير العلاقات الدولية.
خصوصا تلك التي ترتبط بوشائج أهم وأبعد من الانتماءات السياسية أو الميول الدينية.
تهمني العلاقة مع السودان في الوقت الراهن. لأنها أكثر حساسية ودقة فضلا على أن حكومة الخرطوم لم تنتقد علنا المتغيرات التي حدثت في مصر، كما حدث مع حكومة أنقرة.
ذلك أن ثمة حرصا سودانيا على توصيل رسالتين.
الأولى أن العلاقة مع مصر إستراتيجية ولا تتأثر بشكل وانتماءات أنظمة الحكم في البلدين.
والثانية أن السودان ملتزم بعدم التدخل في الشأن المصري، وينفي بشدة ما تردد عن شائعات الدعوة إلى التدخل الدولي الذي عانى منه السودان الكثير، وما عاد يرجوه لأي دولة، "خاصة مصر التي تمثل عمق الأمن القومي بالنسبة للسودانيين".
والجملة الأخيرة اقتبستها من رسالة تلقيتها بخصوص الموضوع من المستشار عبدالرحمن إبراهيم بالسفارة السودانية بالقاهرة.
لا أعرف ما إذا كانت زيارة السيد نبيل إسماعيل فهمي وزير الخارجية الجديد للخرطوم في شهر أغسطس الماضي لها علاقة بالملف الذي أتحدث عنه أم لا؟
لكن الرسالة التي تلقيتها من الدبلوماسي السوداني ذكرت أن المباحثات التي أجراها الوزير المصري "تجاوزت كل ما حدث في مصر"، وركزت على أهمية وإستراتيجية العلاقة بين البلدين،
ومن ثم تناولت آفاق التعاون بينهما على جميع المستويات.
وهو ما أحبذه وأتمناه، منوها إلى دلالة توجه الوزير الجديد إلى السودان في أول زيارة خارجية له، ومحبذا قرارة استحداث إدارة جديدة بالوزارة تختص بدول الجوار
ــ ليتها تنجح في أن تجعل مصر والسودان "إيد واحدة".