منذ توقيع الاتفاقية النووية في 2015 وثمّة سياق مثير للجدل يصاحبها، وكان الاختيار البديل لأميركا حينها إطلاق حربٍ ضد النظام الإيراني. لكنّ أوباما تمكّن بطريقة ما من إبرام الصفقة، بعيدًا عن الكونجرس الأميركي الذي استمات في الوقوف ضدها؛ وموافقته على الانسحاب منها حاليًا نابعة من الرفض المسبق لها قبل ثلاثة أعوام.
وانسحب ترامب من الاتفاقية النووية التي سنّها سلفه بعد معاناة، فيما جاء الرد الإيراني أكثر تريثًا وهدوءًا؛ فلم يعلن الرئيس الإيراني الانسحاب من الاتفاقية، ولم تندلع حرب؛ بل دعا الدول الأوروبية الموقّعة على الاتفاق إلى العمل على ضرورة بقائها كما هي.
لكن، إليكم الحقيقة المرة: تواجه أميركا وحلفاؤها خطر مواصلة إيران لاختبارات الصواريخ الباليستية، في انتهاك صارخ لقرارات الأمم المتحدة وإثارة الاضطراب في المنطقة؛ كل هذا من أجل التفوق الإقليمي ضدّ السعودية.
وبطبيعة الحال، وكما ذكر وزير الخارجية السابق جون كيري وغيره من مساعدي أوباما مرارًا وتكرارًا، فالسلوك الإيراني بعيد عن نطاق الصفقة الإيرانية؛ فمن ناحيةٍ تتجاوز إيران حدودها الإقليمية بتدخلات عسكرية غير مرغوب فيها، ومن ناحية أخرى لا يصح الانسحاب من اتفاقية سُنّت بموافقة جميع الدول، ولم تُخِلّ بها إيران.
وفي مناظرة عقدتها صحيفة «بلومبرج»، وترجمت وقائعها «شبكة رصد»، قال «توبين هارشو»، الباحث في معهد أميركان إنتربرايز، إنّ مؤيدي ترامب يصرّون على أن الصفقة كانت معيبة جدًا؛ لذا كان من الضروري تغييرها وفقًا لمتطلبات أميركا الجديدة. ووفقًا لمفهومهم، لم يتمكّن أوباما من إبرام صفقة توافي المتطلبات الأميركية.
أما «كينيث بولاك»، الخبير في مجال الأمن القومي الأميركي، فأكّد أنّه لا يوجد شيء مؤكد لنشوب حرب إقليمية بسبب الانسحاب الأميركي من الصفقة، ويرى أنّ الاتفاق النووي الإيراني كان مهمًّا للغاية؛ لأنه وضع حدًا للبرنامج النووي الإيراني. وعلى غرار كل شيء في أميركا هذه الأيام، لا توجد إجابة سهلة. من وجهة نظري، لم تكن صفقة كبرى: شعرتُ أنها تخلّت أكثر مما ينبغي، وحصلت على أقل مما تستطيع. لكنها كانت صفقة مفيدة عامة؛ وكانت لتعطينا وقتًا للتفاوض مع الروس والصينيين لإقناعهم بضرورة حثّ إيران على تعديل سلوكياتها.
ولم يبدِ ترامب وأوباما اهتمامًا بما تفعله إيران في الشرق الأوسط وأعمالها العسكرية في الدول المجاورة، بقدر ما اهتموا بأنشطتها النووية؛ ما ترك مجالًا لإيران لتوسيع نشاطها، وفي الوقت نفسه الحدّ من برنامجها النووي.
وأكّد بولاك أنّ أوباما كان من الممكن أن يحصل على موافقة مجلس الشيوخ قبل إبرام الاتفاقية؛ وبذلك جعل فكرة إلغائها من ترامب أصعب، وكان الكونجرس الأميركي ضد الصفقة كليًا في 2015؛ لذلك وافق بسهولة على إلغائها في عهد ترامب، وأشعر أنّ أوباما كان يفضّل الحرب؛ لكن لسبب ما أراد مواصلة الصفقة.
ورأى كينيث أنّ المسؤولين السابقين في إدارة أوباما خاب أملهم كثيرًا في ترامب، وعلى وجه الخصوص «جون كيري» و«بن رودس» اللذان أكّدا أنّ ترامب يريد بالفعل نشوب حرب بين إيران وأميركا؛ دافعين أيضًا بأنّ الانسحاب من الاتفاقية ضرب مصداقية أميركا، وأظهرها بمظهر غير الملتزم بكلمته.
وأوضح كينيث أنّ الرد الإيراني على القرار الأميركي كان متوقعًا، واعتقدت أميركا أنّ رد الفعل سيكون أقسى؛ إمّا بحرق الأعلام الأميركية في البرلمان الإيراني، أو إطلاق صواريخ على «إسرائيل» من سوريا. لكن، وخلافًا لكل التوقعات، تواصلوا مع الأوروبيين وطلبوا منهم الحفاظ على الصفقة.
وأكّد بلاك أنّ الرد الإيراني كان ذكيًا للغاية، فبالرغم من تأكيدات تفيد بأنّ الإيرانيين حمقى وجهلة؛ تمكّنوا من العمل بطريقة جيدة على أنقاض الاتفاق، موضحًا أنّها تستفيد بطريقة أو بأخرى من الاتفاقية؛ لذا سعت بكل قوة للإبقاء عليها.
وتعاني إيران حاليًا من تدهورات اقتصادية على المستوى الداخلي، وشهدت احتجاجات جماهيرية في ديسمبر الماضي؛ بسبب ارتفاع مستويات البطالة وتفشي الفساد والتدخلات العسكرية في دول الجوار التي كلفتهم كثيرًا، وأعطتهم الاتفاقية ميزة لتحسين أوضاعهم؛ لكنّ السياسيين الإيرانيين لم يستغلّوها جيدًا.
كما تعاني إيران من تمزّق سياسي؛ إذ تنقسم إلى معسكرين: المتشددين والمعتدلين، ويمثّل المعتدلون «حسن روحاني» والمتشددون «المرشد الإيراني الأعلى». وجادل المؤيدون للصفقة «مثل روحاني» بأنّ الانسحاب الأميركي من الاتفاقية سيزيد من التدهور الاقتصادي، وذكروا من قبل بأنّ جزءًا من التدهور الاقتصادي الحالي بسبب العقوبات الأميركية التي لم تُرفع حتى توقيع الاتفاقية.
ويشكك كينيث في أنّ التأثير سيكون مفيدًا للمتشددين والمعتدلين داخل إيران، ويجادل روحاني بأنّ الاقتصاد الإيراني ليس في حاجة إلى الصفقة ليتحسن؛ مدللًا على ذلك بأنه لم يتحسّن في المدّة التي تلت توقيع الاتفاقية في 2015.
كما حاول متشددون تقويض موقف الرئيس روحاني، بزعم أنّ الاتفاقية لم تساهم في تحسين الاقتصاد الإيراني، موضحين أنّ أميركا تمكّنت من خديعة إيران ولم تكن على مستوى التزاماتها؛ وهدف ترامب من الانسحاب إضعاف موقف النظام الإيراني، كما يستهدفه بشكل خاص.
ويعتقد البيت الأبيض أنّ الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني سيجلب إيران إلى طاولة المفاوضات للتوصّل إلى صفقة جديدة، وهي حجة دائمًا ما يرددها وزير الخارجية الجديد «مايك بومبيو».