نشرت «شبكة الجزيرة» مقالًا للكاتب الفلسطيني رمزي بارود عن أولى انتفاضة فلسطينية اندلعت عام 1987 وما مثّلته من تحوّل في استراتيجية مقاومة الاحتلال من الفصائل والدولة إلى الشباب والأطفال، وكيف أرعبت «إسرائيل»، وتسبّب تناحر الفصائل الفلسطينية في هزيمتها فيما بعد، موضحًا أنّ النجاح في مقاومة الاحتلال لن يحدث إلا عبر أحفاد من طُردوا وهجروا من أراضيهم وسلبت هويتهم على يد الاحتلال.
وقال رمزي، وفق ما ترجمت «شبكة رصد»، إنه بعدما بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ديسمبر 1987 كنتُ أبلغ من العمر حينها 15 عامًا، على أعتاب مرحلة البلوغ، كان عامي الأول في مدرسة خالد بن الوليد الشهيرة في مخيم النصيرات للاجئين.
وبالرغم من تقييد الفرص المستقبلية في مخيم اللاجئين تحت الاحتلال العسكري؛ تخطى خيالي حدود أسرتنا الفقيرة. لكن، على كل حال، فالحياة لها خطط أخرى.
غلبتْ الحياةُ والدي، الذي كان في كفاح يومي مستمر لتغطية احتياجتنا اليومية، وتوفي جدي مؤخرًا؛ لكنّ حلم العودة إلى قريتنا «بيت داراس» -المطهرة عرقيًا عام 1948- ما زال يطاردني.
وبالنسبة لي وكثير من أبناء جيلي، لم تكن الانتفاضة حدثًا سياسيًا بقدر ما كانت عملًا شخصيًا، وبقدر ما كانت على درجة من التحرر الاجتماعي، والقدرة على التعبير في وقت بدا فيه الجميع مفقودًا، وحينها سقطت منظمة التحرير الفلسطينية في تونس بعد إرغامها على مغادرة لبنان عام 1982؛ ويبدو أنّ الحكومات العربية فقدت الاهتمام بفلسطين، وبرزت «إسرائيل» كعدو منتصر لا يُقهر.
وشعرنا نحن الذين عاشوا في ظل الاحتلال بالهجر التام.
لن أنسى ذلك اليوم الذي تمكّنتُ فيه من حل صراعي الشخصي واسترددت هويتي واستعدت شرفي وشرف عائلتي. كان ذلك صبيحة يوم 9 ديسمبر 1987.
حينها هاجم جنود إسرائيليون مخيم اللاجئين الذي كنت فيه، بعضهم سيرًا على الأقدام وغيرهم في سيارات جيب صغرى ومركبات عسكرية كبرى، وكانت المعركة على وشك أن تبدأ؛ وحُثّت النساء والأطفال على المغادر قبل وصول الجيش، وتراجع كثير من الشباب. المشهد كان مرعبًا؛ لكنه كان مبهجًا أيضًا.
لم أكن تلميذًا في المدرسة المتوسطة، بل طالب في مدرسة خالد بن الوليد. التقطتُ حجرًا ووقفت وسط أطفال يركضون من جنود الاحتلال، بأيديهم أحجار وأعلام، واقترب الجنود وبدو مخيفين ولهم هيئات أجانب.
وعندما بدأ الأطفال في رمي صخورهم تجاه قوات الاحتلال تزايد القلق؛ لكنني شعرت أنني أنتمي إلى هنا. كلما قذفتُ حجرًا صِحت الله أكبر، كنتُ أضرب أيّ هدف إسرائيلي أمامي، وكلما أصبتُ هدفًا شعرت أنني حر أكثر. لم أعد لاجئًا ينتظر دوره في طابور طويل أمام مركز التغذية التابع للأمم المتحدة لتلقي وجبة عبارة عن شطيرة فلافل جافة ونصف بيضة.
تزايدت مشاعر الغضب داخلي، وحصلتُ على حجر آخر وانتقلتُ إلى الصفوف الأمامية؛ حتى عندما طار الرصاص بجواري وبدأ أصدقائي يسقطون واحدًا تلو الآخر لم أتراجع، شعرت حينها أنني أحيا على طريقتي الخاصة.
اسمي رمزي، ابنٌ لمحمد، مقاتلٌ من أجل الحرية، عاش في مخيم النصيرات للاجئين، وحفيد لفلاح توفي بقلب مكسور ودفن بجانب قبر آخر، الذي توفي صغيرًا لأن عيادة الأمم المتحدة لم يتوفّر فيها دواء داخل مخيم اللاجئين. والدتي ظريفة، لاجئة بالكاد تستطيع أن تتهجى اسمها، عوّضت الأمية داخلها بقلب يفيض بالحنان، كانت امرأة لديها صبرُ نبي. أنا صبيٌّ حرّ، أو في الحقيقة رجل حر، والده مقاتل ووالدته نبية.
جباليا والنصيرات وفلسطين
في 8 ديسمبر 1987، خرج الآلاف إلى شوارع مخيم جباليا للاجئين، وهو أكبر مخيم في قطاع غزة وأفقره، وكان توقيت انتفاضتهم ومكانها أكثر ملاءمة وعقلانية وضرورية. ففى وقت سابق من ذلك اليوم، دعست شاحنة إسرائيلية صفًا من السيارات التي تقلّ عمالًا فلسطينيين؛ فقتل أربعة شبان.
وتحرّك المتظاهرون من مخيم جباليا إلى معسكر للقوات الإسرائيلية معروف باسم «الخيام»، حيث يوجد قوات للاحتلال أذاقت سكان المخيم الويلات.
وفي صباح 9 ديسمبر خرج الآلاف من شباب النصيرات أيضًا إلى الشوارع متعهدين بالانتقام من دماء الأبرياء الذين طالتهم شاحنة الاحتلال. حملوا بأيديهم أعلامًا فلسطينية تلوح في الهواء بشكل جميل ومتناغم، ومع نمو الحشد تعالى الصياح الجماعي، وساروا أيضًا إلى معسكر الخيام، حيث يجلس الجنود بشكل غير مريح على قمم أبراج المراقبة ويختبئون خلف بنادقهم الآلية.
وفي غضون دقائق بدأت الحرب في الاشتعال، وبدأ جيل ثالث من الفلاحين المولودين في مخيم الفلاجين يقفون بلا خوف ضد جيش مجهز تجهيزًا جيدًا، وبدا الخوف واضحًا على جنود الاحتلال رغم تجهيزاتهم، وأصيب عديد منهم بجراح وقُتل منا آخرون؛ بينهم كثير من الأطفال، وكان هتاف الحرية من بين الهتافات التي تتعالى، ونُقل الموتى إلى مقبرة الشهداء بالنصيرات، حيث مكانهم للراحة الأبدية.
وفي غضون أيام، كانت غزة أرضًا خصبة للثورة الحقيقية، التي كانت ذاتية الدفاع، وتلاقت الهتافات من الفلسطيين في غزة والضفة الغربية. ومعظم المشاركين أطفال وشباب راغبون في استعادة هوية أجدادهم بعد تشويهها وتقطيعها بين مناطق وبلدان ومخيمات للاجئين.
قبل الانتفاضة
لا يمكن فهم الانتفاضة دون الأحداث المحدّدة المؤدية إلى احتجاجات 8 ديسمبر. ففي عام 1984، تأسّست حكومة وحدة إسرائيلية برئاسة «إسحاق شامير» من حزب الليكود اليميني، و«شيمون بيريز» من حزب العمل، وتولى الاثنان منصب رئيس الوزراء، وعُيّن «إسحق رابين» في منصب وزير الدفاع.
ورؤساء القيادة الإسرائيلية هؤلاء أسوأ مجموعة تمكّنت من وجهة نظر الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ فبينما مثّل بيريز وشامير دور حمامة السلام أمام المجتمع الدولي، شرع مرؤوسوهم في ضمٍّ غير مشروع للأراضي الفلسطينية.
وقبل الانتفاضة، كانت المقاومة موجودة؛ لكنها متقطعة، وواجه طلاب من مدرستي الثانوية بشجاعة القوات الإسرائيلية على مرات متقطعة، وانضم بعضهم فيما بعد إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
وكانت حركة فتح أكثر الفصائل وضوحًا في المدارس والجامعات الفلسطينية، وانقسمت الحركة الإسلامية إلى مجموعتين: «الجماعة الإسلامية»، التي تحوّلت بعد إلى حماس، و«الجهاد الإسلامي» (جماعة مسلحة صغرى لكنها أجرأ).
لكنّ الانتفاضة ولدت خارج هذا السياق السياسي، وتجاوزته في نهاية المطاف، وكانت هذه المرة الأولى منذ سنوات يستطيع فيها الشباب الفلسطيني اتخاذ زمام المبادرة، وجعل الجميع -بما فيهم منظم التحرير الفلسطينية- في ذهول.
الحملة الإسرائيلية
بعد أسابيع من الاشتباكات الدموية التي قُتل فيها مئات الشباب وأصيب مئات آخرون، أصبحت طبيعة الانتفاضة أكثر وضوحًا. فمن ناحية، شمل النضال الشعبي العصيان المدني والاحتجاجات الجماهيرية والضربات التجارية ورفض دفع الضرائب والرسوم، وبدأت الخلايا المشتددة وسط شباب اللاجئين في ترك بصماتها.
ولم تتضح حدة الانتفاضة إلا بعدما زاد القمع الإسرائيلي الذي مارسته حكوم شامير تحت راية «القبضة الحديدية»، أو سياسة كسر العظام؛ فبمجرد القبض على شاب يشرع جنود الاحتلال في كسر ساقيه ويديه بطريقة ممنهجة وقبلية، وبدا أنّ معظم الأطفال يسيرون بعكازات حينها.
وطوال السنوات الست للانتفاضة فُرض حظر التجوال يوميًا من الساعة الثامنة مساءً وحتى صباح اليوم التالي، في شكل من أشكال العقاب الجماعي للفلسطينيين. ومع الحشد الشعبي حاولت الفصائل استعادة المبادرة، وحشدت الحركة الإسلامية «حماس»، التي كانت في مرحلة متقدمة من التنظيم، نفسها بسرعة وانضمت إلى الانتفاضة تحت اسم «حماس» في بيان أصدرته.
من ناحية أخرى، كانت هناك «القيادة الوطنية المتحدة للانتفاضة»، وهي منصة تجمع الفصائل التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية داخل فلسطين، وتطروت الأوضاع إلى أن صار هناك تناحر بين الفصائل المختلفة على المركز، واشتبكت حماس مع قوات الأمم المتحدة التي حاولت تحجيم دور الفصائل.
واعتبرت «إسرائيل» الانتفاضة عملًا إرهابيًا قادته منظمة التحرير الفلسطينية ونظمته واستغلته لاستخراج تنازلات سياسية منها؛ ونتيجة لذلك، في 16 أبريل 1988 اغتالت «إسرائيل» أحد كبار قادة فتح «أبو جهاد» في تونس، في بداية لاغتيالات بارزة أخرى لقادة منظمة التحرير الفلسطينية، الذين اعتبرتهم «إسرائيل» عقبات أمام ما يسمى «السلام».
في 18 مايو 1989، اعتقلت «إسرائيل» الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس في غزة، وحاكمته علنيًا لمدة عام، وبرزت صورته مبتسمًا على كرسيه المتحرك محاطًا بالجنود المدججين بالسلاح والشرطة وحشد من الإسرائيلين، وكانت صورته استعارة مثالية للانتفاضة، الضعيفة من الخارج لكنها قوية قادرة على فرض نفسها.
وقت قصيرة من النصر
ومع توسّع «إسرائيل» في القمع، حاولت الولايات المتحدة بعد حرب الخليج 1990-1991 ترجمة هيمنتها الإقليمية المتصورة إلى مكاسب سياسية، وفرض نظام عالمي جديد؛ كما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش. وبجانب ذلك، اتّجه الفلسطينيون والوفود العربية إلى مدريد لإجراء محادثات السلام، التي بدأت في أكتوبر 1991، ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي الغاضب «إسحق شامير» الانتفاضة ورفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية أو قبول القانون الدولي الذي كرّس هذه الحقوق.
لكنّ كثيرين من الفلسطينيين اعتبروا أنّ المؤتمر انتصار للانتفاضة، وعلّق اللاجئون في المعسكر الذي كنت فيه على كلمات رئيس الوفد الفلسطيني الدكتور حيدر عبدالشافي، الذي عبّر عن الموقف الفلسطيني بقوله:
«نحن، شعب فلسطين، نقف أمامكم بكامل آلامنا وفخرنا وتوقعنا، ونتطلع منذ مدة طويلة إلى السلام وحلم العدالة والحرية، وهويتنا الفلسطينية وكفاحنا المشروع ضد الظلم الذي لحق بنا».
أذكر أنّ كلّ الرجال الذين تجمعوا في غرفة معيشتنا لمشاهدة الخطاب بكوا هذه الليلة. ولكن، للأسف، تحوّل وقت قصير من الانتصار إلى حديث يبدو أنه لا نهاية له؛ بينما استمرّ القمع العنيف من الجانب الإسرائيلي لأحداث الانتفاضة.
ولم تصل الانتفاضة إلى نهاية مفاجئة؛ فمصيرها تنافس الفصائل بين بعضها بعضًا، إلى جانب مفاوضات غير جدية لم تؤدّ إلا لتفاقم المشاكل التي يعاني منها الفلسطينيون واستمرت وما زالت مستمرة لسنوات. وبالرغم من الحصار العسكري المستمر؛ اكتسبت فصائل الانتفاضة اليد العليا، ووجهت أيديها ناحية الفلسطينيين الذين يتعاونون مع جيش الاحتلال.
وانتهت الانتفاضة بازدهار السلطة الفلسطينية في 1994، وهي في حد ذاتها نتيجة «محادثات سلام» سرية بين المسؤولين الإسرائيليين ومنظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، وقُمع الشعب الفلسطيني على نحو واجب. لكن، هذه المرة ليست من الإسرائيليين؛ بل من حكومتهم والأشخاص الأكثر فسادًا في السلطة الفلسطينية، وحقق بعضهم غناءً فاحشًا، بينما يغرق معظم الشعب الفلسطيني في اليأس. إضافة إلى ذلك، تصاعد التنسيق والتعاون الأمني مع الجانب الإسرائيلي.
وغادرت فلسطين لسنوات، ومنذ ذلك الحين شهد مخيم اللاجئين انتفاضة أخرى، كانت نهايتها حصارًا دام عقدًا وحروبًا توفي فيها آلاف الفلسطينيين؛ ولا يزال المستقبل يحمل وعدًا بمزيد من الضحايا، ولا يزال فلسطينيون ينتظرون الانتفاضة المقبلة.