صار من الصعوبة فهم جذور قضايانا في مجتمع لم يمارس السياسة لعقود طويلة، ويواجه كما كبيرا من عمليات التضليل التي تمارسها الأبواق الإعلامية للحكم التسلطي، فضلا عن استخفاف البعض بالعلم واستسهالهم الخوض في شؤون السياسة دون تدبر أو فهم دقيق.
هذا أول مقال في سلسلة مقالات حول حديث المبادرات في مصر أو ما العمل لانقاذ مصر. وهو تحديدا حول الهدف الذي يمكن أن يجتمع عليه المصريون لمواجهة الكوارث السياسية الاقتصادية الحالية التي تهدد بقاء الدولة وسلامة المجتمع ومستقبل الأجيال القادمة.
لا تتحدد الأولويات والأهداف بلا فهم عميق لأمرين محددين على الأقل، هما الواقع المراد تغييره وكافة العوامل المؤثرة فيه من جهة، والسنن أو القوانين التي كشفت عنها حالات التغيير والتي صار لها علم فرعي خاص بها من فروع علوم السياسة هو علم تغيير النظم السياسية من جهة أخري.
ويهمني هنا إيضاح ثلاثة أمور هنا أرى أنه لابد من أخذها في الاعتبار عند التفكير في الهدف الذي يمكن أن يجمعنا:
أولا – هناك تمييز مهم يجب فهمه جيدا وأخذه في الاعتبار عند وضع الاستراتيجيات والأهداف الكبرى، تمييز بين “الانتقال إلى الديمقراطية” وبين “التحول الديمقراطي”. فالانتقال إلى الديمقراطية يشير باختصار إلى تحويل السلطة من يد الحكام المطلقين (الشموليين أو العسكريين أو الحزب الأوحد…) إلى حكومة ديمقراطية مدنية منتخبة، أي اجتياز المسافة الفاصلة بين أنظمة الحكم غير الديمقراطي وأنظمة الحكم الديمقراطي. وفي هذه الحالة لا يتخلص النظام الديمقراطي الوليد من كل المشكلات التي كانت قائمة قبل الانتقال مثل انخفاض الوعي السياسي، أو ضعف الأحزاب السياسية، أو بالطبع نفوذ المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. وقد تم هذا بطرق مختلفة ومتداخلة في بعض الأحيان، منها النضال التدريجي الممتد ضد النظام، أو الانهيار المفاجئ للنظام عقب هزمية عسكرية أو في أعقاب ثورة أو انتفاضة شعبية، أو غير ذلك من الطرق التي قد نتحدث عنها لاحقا.
يلي ذلك عملية التحول الديمقراطي، وهي عملية ممتدة بمراحل متعددة تختلف أبعادها من دولة إلى أخرى، وقد تشتمل على عمليات مرتدة تعمل في الاتجاه المعاكس، وتنتهي (في حالة النجاح) إلى حالة جديدة هي ترسيخ قواعد النظام الديمقراطي، أي الحالة التي يمكن معها القول، بقدر كبير من الثقة، أنه لا خطر على النظام الديمقراطي لا من الجيش ولا من الأحزاب ولا من الجماهير ولا من الخارج. وتتصل هذه الحالة الأخيرة بمؤشرات مختلفة يمكن التطرق لها لاحقا، لكن من ضمنها الانتهاء من معالجة العلاقات المدنية العسكرية التي سيكون لها مقال أو مقالات منفصلة.
ثانيا – خلال مرحلة الانتقال التي أشرنا لها يكون هناك تركيز على هدفٍ استراتيجي واحد، غالبًا ما يكون له علاقة بتغيير نمط ممارسة السلطة وإقامة النظام السياسي البديل بضماناته المختلفة، وعلى أن يتم بعد تحقيق هذا الهدف (أي خلال مرحلة التحول الديمقراطي) فتح الملفات الأخرى الشائكة على يد مؤسسات دولة وحكومة قوية تمتلك شرعية شعبية قوية وقدرا معقولا من أدوات الدولة الفعّالة من برلمان وقضاء ومجالس رقابية وغيرها. وغالبا ما يتم هذا تحت قيادة أحزاب أو تكتلات أو إئتلافات سياسية قوية. وهذا يعني أنه كان من الصعوبة في معظم الحالات تحقيق كل الأهداف مرة واحدة كما يتصور البعض لأننا أمام عالم السياسة المعقد بطبيعته والذي يحتاج كل من يعمل فيه إلى قدر كبير من المهارات والمعارف.
وهناك عدة أمثلة ففي جنوب أفريقيا لم يتم فتح كل الملفات مرة واحدة في المرحلة الأولى، بل كان الهدف الاستراتيجي هو الحصول حقوق متساوية ونظام تعددي ديمقراطي ولا يزال الطريق طويلا هناك. وفي أوروبا الشرقية كان التركيز على التعددية وعدم احتكار حزب واحد للحياة السياسية. وفي أمريكا اللاتينية كان التركيز على خروج الجيوش من السلطة وبناء حكومات مدنية. وفي تركيا اختار حزب العدالة والتنمية ذات الطريق: هدف استراتيجي قريب ظل يعمل على تحقيقه لأكثر من عقد من الزمان، لتظهر بعد هذا أهداف أخرى.
أما في مصر، وفي دول عربية أخرى، فقد رفع البعض أهدافا متعددة بعد ثورات ٢٠١١ دون التحضير الجيد لها أو تدبر عواقب هذا الفتح، وقد كان هذا متوقعا بالنظر لطريقة التغيير التي تمت (أي التغيير الثوري) وبالنظر إلى الإرث الأسود للنظم التي كانت قائمة قبل الثورات). ولهذا سمعنا أهدافا مثل تطبيق الشريعة والعدالة الاجتماعية ومواجهة الهيمنة الأمريكية. وبرغم عدالة وأهمية كل هذه المطالب إلا أن الأمر كان يقتضي من الذين تصدروا المشهد السياسي ترتيب الأولويات ووضع الأهداف وتحديد المراحل حتى يمكن خلالها معالجة هذه الأمور بقدر أكبر من الحكمة. كانت هناك فرصة لهذا وتم اهدارها عندما لم تتفق الغالبية على الأولويات وتتكتل من أجلها.
ثالثا – يعني ما سبق أنه لا يمكن مثلا تصور أنه مشكلة مصر الآن في ظل الحكم القائم هي في التعليم ومن ثم المضي قدما في تشكيل فريق علمي ووضع استراتيجية لإصلاح التعليم. ولا يمكن فعل ذات الشئ مع الاقتصاد أو الصحة مثلا.
هذا خلل في فهم أصل المشكلة وإضاعة للوقت ومساعدة في مد عمر الإستبداد لأسباب كثيرة منها ففساد التعليم ناتج عن الإستبداد وهو بالطبع صار بعد هذا يقوي الإستبداد، هذا فضلا عن أنه ثبت من تاريخنا القريب أن كل الانجازات الجزئية في التعليم التي تحققت تحت الحكم الفاسد لمبارك وفي غيره من القطاعات ذهبت أدراج الرياح لأنها لم يسبقها (أو يصحبها على الأقل) معالجة صلب المشكلة السياسية أي الإستبداد وتداعياته الكارثية من قمع الحريات وضعف حكم القانون وغياب الشفافية وضعف القضاء المستقل وعدم محاربة الفساد والبيروقراطية وغير ذلك.
وللحديث بقية