تكشف تطورات الأيام القليلة الماضية عن عمق الأزمة السياسية والاقتصادية التي يمر بها مشروع الثورة المضادة حاليًا، وهو ما لفتت إليه حركة الاشتراكيين الثوريين قبل عامين ونصف بأن الأزمة الاقتصادية لا يمكن أن تضع لها الثورة المضادة، رغم الدعم الهائل من دول الخليج، حلًا ولو مؤقتًا، وأن حلف 30 يونيو الذي بنى عليه السيسي سلطته، بل ومهَّدَ به انقلابه منذ البداية، سرعان ما ستنشب أزمة سياسية من داخله تؤدي إلى تفككه.
تأتي إقالة الزند من منصب وزير العدل في هذا السياق، خاصةً بعد تهديد المئات من القضاة البارزين بالاستقالة، وهو ما ينم عن حدة حالة الخصام داخل دولة مبارك التي ورثها السيسي. لا تعبر الإطاحة بالزند بهذه الطريقة إلا عن صراع نفوذ، سيتطور بشكل أكبر في المستقبل، بين أجهزة مختلفة ومتنافسة في الدولة. وهذا ما أصبح الكثير من الإعلاميين البارزين يصرِّحون به علانيةً في الآونة الأخيرة.
ما يكشف أيضًا حدة هذا الصراع هو التناقض في الموقف من حركة المقاومة الإسلامية حماس بين وزارة الداخلية والمخابرات. فبينما تتهم الداخلية حماس باغتيال النائب العام، تستضيف المخابرات العامة وفدًا من قادتها في القاهرة بعد يومين فقط من هذا الاتهام، الأمر الذي يكشف النقاب عن ارتباك شديد بين اتجاهات مختلفة داخل أجهزة الدولة.
هذا هو الحال بشكل عام إذا ما نظرنا إلى كافة الأطراف المؤسِّسَة لحلف 30 يونيو، سواء أجهزة الدولة التي اعتمد عليها الجنرال من قوات مسلحة وداخلية ومخابرات وقضاء، أو الكتل الجماهيرية الضخمة التي أيدت السيسي وفوضته للقتل والقمع والتي بدأت بدورها في التشكك في قدرة السيسي على حل المعضلات الاجتماعية، بل وبدأت في التحرك ضد التعذيب والقمع الذي طالها بعمق. وهذا ما رأيناه في مظاهرات أهالي الأقصر واحتجاجات الأطباء ثم تحرك أهالي الدرب الأحمر، وغيرهم، بالإضافة إلى الاحتجاجات العمالية التي بدأت في النهوض، وهو الأمر فائق الأهمية برغم جزئية هذه الاحتجاجات وتفرقها.
وحتى القوى السياسية التي التفت حول السياسي ووقفت من ورائه في جرائمه سابقًا، فقد تخلصت الدولة بإرادتها منذ فترة طويلة مما سُميَ بـ»الجناح الديمقراطي» في السلطة، وذهب الآخرون لإبداء الكثير من المعارضة للنظام بعد أن فاق القمع توقعاتهم بل وطالهم هم أيضًا. أما كبار رجال الأعمال، فتتعرض مصالحهم لتهديد حقيقي في ظل سلطة السيسي، حيث الاضطرابات السياسية الطاردة للاستثمارات الأجنبية، وارتفاع سعر الدولار الذي يكلفهم الكثير ويخصم مما توقعوا من أرباح، والدور المتنامي للقوات المسلحة في المشاريع.
لكن أزمة السيسي ليست على الجانب السياسي فقط، بل أن الأزمة السياسية نفسها لم تكن لتصل إلى هذه الدرجة من العمق والحدة لولا أيضًا الأزمة الاقتصادية التي تزداد هي الأخرى عنفًا يومًا بعد يوم، حيث الارتفاع الصاروخي لسعر الدولار، وتعويم الجنيه، بالإضافة إلى إهدار المليارات في مشاريع وهمية، مثل مشروع محور قناة السويس الجديد الذي يتوقف في المقام الأول على حجم التجارة العالمية الذي توقف عن النمو منذ فترة طويلة. ما يزيد الطينة بلة هو توقف الدعم المُقدَّم من قِبَل دول الخليج، فعدم الرضا الخليجي عن سياسات السيسي وعن مشاريعه التي لا طائل منها من ناحية، وانخفاض سعر النفط، مما يؤثر بالسلب على اقتصادات الخليج من ناحية أخرى، أدا إلى بناء حائل دون استمرار تقديم مثل هذا الدعم الذي كانوا يهبونه للسيسي من قبل.
لن يستفيد من هذه الأزمة الاقتصادية العنيفة سوى كبار رجال الأعمال الذين يسيطرون على الثروة في مصر، والذين بالمناسبة زادت ثرواتهم بنسب تصل إلى 30% منذ بداية الثورة المصرية في 2011. وسيواجه مشروع الثورة المضادة هذه الأزمة بالمزيد من الضغط على الفقراء والعمال والموظفين، وعلى الناحية الأخرى تقديم المزيد من التنازلات لرجال الأعمال، وهو ما رأيناه بالفعل سواء في تعويم الجنيه، الذي كان مطلبًا أساسيًا لساويرس وغيره من رجال الأعمال، أو في التصالح مع بعضٍ من الحيتان الذين راكموا ثروات طائلة من الفساد أثناء حكم مبارك، مثل حسين سالم، مقابل إنهاء القضايا المتهمين فيها.
النتائج الأساسية من هذه الخطوات هي زيادة كبيرة في الأسعار، والإتيان على ما تبقى من دعم، وإطلاق يد الدولة في تسريح العمال من مصانعهم وشركاتهم، مقابل درجة من الانتعاش للشركات الكبرى نظرًا لتوفر الدولار نسبيًا نتيجة تعويم الجنيه، علاوة على الزحف السريع نحو زيادة التضخم، ما يعني انهيار قيمة الجنيه واختلال التوازن بشكل كبير بين الأجور والأسعار.
يأتي قانون الخدمة المدنية في هذا السياق، ليضيف المزيد من الأعباء على كاهل الموظفين والعمال. ولقد سعى النظام إلى إعادة تمرير القانون في البرلمان مرة أخرى، رغم رفضه من قبل، والإصرار على تطبيقه في المؤسسات الحكومية حتى بعد إلغائه. ولأن الدولة تستعد لهجوم أكثر عنفًا على مستويات معيشة الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، فقد بدأت أيضًا بالتوازي مع ذلك في معركة ضد الحريات النقابية والحق في التنظيم من الآن، كي تجهض الوسائل التي يمكن من خلالها أن ينظم العمال والموظفون أنفسهم. والدعوى القضائية المُقدَّمة من اتحاد العمال الحكومي للمطالبة بحل النقابات المستقلة ليست إلا مثالًا على ذلك.
سيمهِّد كل ذلك الطريق أمام الكثير من التحركات الجماهيرية. أضف إلى ذلك أن التخلخل الناتج عن الصراعات بين أجنحة مختلفة في صفوف الطبقة الحاكمة، كما هو مُشار إليه أعلاه، سيعطي ثقة كبيرة لقطاعات من الجماهير للتحرك. فلا يمكن استبعاد انفجار جماهيري كبير في المستقبل، أو حتى انفجارات جزئية كثيرة، لابد أن يستعد لها المناضلون من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بالسعي من أجل الربط والتنسيق بينها وتوحيدها، الديمقراطي منها والاجتماعي.