استيقظ المصريون فجأة على أغانٍ وطنية وعروض للقوات المسلحة، وبيان للمتحدث الرسمي باسمها يعلن فيه بدء الحرب ضد «الجماعات الإرهابية» في سيناء، تحت اسم «العملية العسكرية الشاملة سيناء 2018»؛ ومن ثم عُلّقت الدراسة في بعض مدارسها، وقُطع الإنترنت والاتصالات تمامًا، ثم عُزلت عن بقية المحافظات، أو بمعنى أدق حوصرت؛ بإغلاق الطرق والممرات المؤدية إلى المحافظات المجاورة.
هكذا وصفت الدكتورة «أميرة أبو الفتوح» الأوضاع في سيناء حاليًا، في مقالها بصحيفة «ميدل إيست مونيتور» وترجمته «شبكة رصد». وتضيف أنّ المدنيين لا زالوا يحتمون في منازلهم؛ خشية التعرض للضرب بإحدى القذائف التي تمطر شمال سيناء ولا تميّز بين مواطن مدني أو إرهابي؛ وهكذا قصفوا المنازل وأحرقوا المزارع ودمّروا المحاصيل.
زمن عبدالناصر
ولا يزال النظام الحالي يعيش في زمن عبدالناصر؛ إذ صنع حربًا تلفزيونية على أمل أن يتجمع المصريون على الجانب الذي يمثّل مصلحة النظام، ويمكن وصف ما يحدث بأنه إيصال مفهوم للمصريين بأنّ هذه الحرب «مقدسة».
وبدورها، حاولت وسائل الإعلام أن تعيش أجواء هذه الحرب المزعومة، التي ذكّرتنا بالظروف قبل «حرب 67» والتعبئة الجماهيرية لمحاربة العدو الصهيوني؛ لكنّ الفرق أنّ الحشود الجماهيرية حينها كانت تتوق إلى محاربة الاحتلال الذي سرق أرضنا جميعًا. بينما يريد النظام الآن حشدهم على جانب آخر بعيد تمامًا عن الحرب المزعومة التي لا نعرف عنها شيئًا إلا من بيانات وتصريحات عسكرية غامضة مليئة بالأكاذيب والمبالغات.
وهو ما يذكّرنا أيضًا بالأكاذيب المبالغ فيها في «حرب 67» والأخبار عن سقوط عشرات الطائرات الصهيونية فوق سيناء، أما الحالية فهي حرب لا يرى فيها المواطن العدو بشكل واضح، كما لو أنّ المصريين يحاربون شبحًا من الفضاء. إضافة إلى ذلك، غاب عن الشعور الوطني الحالي فكرة الدفاع عن الأرض كما كان في الحروب السابقة؛ بل يمكن توصفيها بأنها حرب ضد الشعب المصري ذاته؛ وهو ما بنى حاجزًا نفسيًا بين المواطن المصري وهذه الحرب المزعومة؛ وهو ما جلعهم أيضًا أقرب إلى رفضها بدلًا من الترحيب بها؛ خاصة وأن بلاغة الخبراء الاستراتيجيين ساهمت في إيصال رسالة للجمهور مفادها أنّ الحرب تأتي في صالح حماية أمن الكيان الصهيوني ومنع تسلل التكفيريين.
حماية الكيان الصهيوني!
وهو تأكيد لما قاله السيسي في مقابلة تلفزيونية بأنه لن يترك سيناء تسبّب قلقًا للدول المجاورة، عن طريق تسلل الجماعات الإرهابية إلى هناك؛ لذلك شعر المواطن المصري بعبثيتها، ولن يعتبرها مطلقًا حربًا مقدسة يضحي فيها بروحه ودمه؛ بل الشعور المؤكد أنّ قيادات القوت المسلحة رموا الجيش وسط محرقة سيناء تحت اسم «القضاء على الإرهاب» لحماية الكيان الإرهابي الأول في العالم والعدو التاريخي لمصر «الصهاينة».
يعزز ما ذكرناه التقرير الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عن إطلاق «إسرائيل» غارات جوية فوق أراضي سيناء، ونفذت بالفعل أكثر من مائة غارة؛ وهو ما يوضّح التحالف السري العميق بين الجيشين «الاحتلالي» والمصري.
وفي السياق، لا تعد هذه المرة الأولى التي يعلن فيها الجيش حربًا شاملة ضد «الإرهاب»؛ لكنها المرة الأولى التي يستعرض فيها بهذه الطريقة وهذا العدد من القوات، بعدما حشد السيسي الجيش الثالث بأكمله لمواجهة مسلحين لا يزيد عددهم على 2500. سبقتها حملة «حق الشهيد» المنتقمة لشهداء الشرطة والجيش؛ لكنّ النتيجة أنّ الهجمات الإرهابية زادت، وزادت معاقل الإرهابيين، وانتشروا في جميع ربوع مصر؛ وبالتالي كثير من سفك الدماء.
غياب الشفافية وتوقيت الحملة وأهدافها
أيضًا، غياب الشفافية والمعلومات المحايدة يجعلنا بعيدين تمامًا عما يحدث على أرض الواقع في سيناء؛ بعدما منع النظام الصحفيين المصريين والأجانب من تغطية الأحداث هناك، في الوقت الذي تعتبر فيه الوسائل الإعلام بثّ الحروب على الهواء مباشرة حقًا أساسيًا؛ كما حدث في العراق على سبيل المثال، وهو ما يطرح سؤالًا عن غرض التعتيم الإعلامي المفروض على الحملة العسكرية، والغرض من منع المواطن المصري نفسه من زيارة سيناء إلا بعد الحصول على إذن من الأمن؛ كما لو كانت سيناء دولة اخرى وليست محافظة داخل مصر.
أيضًا، توقيت إعلان الحرب التلفزيونية، قبل شهر من الانتخابات الرئاسية؛ أثار تساؤلات عن أهدافها الحقيقية. فهي مرتبطة بالأحداث التي سبقتها جميعًا؛ مثل اعتقال رئيس الأركان السابق سامي عنان، والشكاوى من التهديدات التي أطلقها السيسي نحو المرشحين الآخرين، وتداول الأخبار والتقارير عن كوميدية الانتخابات المقبلة، وغيرها.
لذلك؛ يحتاج السيسي إلى تحسين صورته في الخارج، وهو الشيء الأكثر أهمية لديه الآن، ولا يوجد طريقة أفضل من ذلك سوى محاولة إقناع العالم بأنّ «مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم بأكمله»؛ وبالتالي ضمان الحصول على دعمين إقليمي ودولي لاستمرار نظامه، وأنه من الضروري إكمال المعركة؛ وربما حتى تأمين وفد عالمي لمساعدته على مكافحة الإرهاب.
ثانيًا: يمكن استخدام هذه الحرب لإيقاف الانتخابات؛ بدعوى أنّ البلاد في حالة حرب ولا تسمح الظروف بأي عمل سياسي، وهو ما فعله جمال عبدالناصر أثناء حرب اليمن عام 1965، والهدف الثالث قد يكون أيضًا تمهيد سيناء من أجل صفقة القرن، التي بموجبها سينتقل الفلسطينيون إلى سيناء؛ وهو الأمر المقرر أن يعلن عنه ترامب في مارس المقبل.