عندما كنا صغار كنا دائمًا نسمع قصة بائعة الكبريت، تلك الفتاة الصغيرة التي أجبرتها قسوة الحياة على بيع أعواد الثقاب في الشوارع من أجل توفير لقمة عيشها، كانت الفتاة تسير في الشوارع وهي تنظر إلى نوافذ المنازل، وترى الناس ينعمون بالدفء، ويشعرون بالسعادة، في الوقت التي تعاني فيه من برد الشتاء القارس.
لم تستطع بائعة الكبريت بيع أي عود ثقاب وانتهى بها المطاف إلى إحدى زوايا المدينة بعد أن أنهكها الجوع والتعب الشديد، لم تجد الفتاة الصغيرة مهرباً من إشعال أعواد الثقاب لتنعم ببعض الدفء، ومع كل عود ثقاب كانت تشعله ترى حلماً جميلاً ،فتارة ترى طاولة عامرة بالطعام، وتارة ترى مدفأة كبيرة ينبعث منها الدفء، واستمرت على هذا الحال حتى أشعلت أخر عود لديها، فرأت جدتها العجوز فصرخت خديني معك لينطفا أخر عود ثقاب لديها وتفارق الحياة جراء البرد الشديد لتكون شاهدة على قسوة قلوب البشر ،الذين لم يتلفوا لهذه الفتاة الصغيرة من أجل إنقاذها من هذا المصير المأساوي.
تفاجأ المارة في الصباح بفتاة صغيرة متمددة على الأرض، ميتة جراء البرد القارس والتعب الشديد الذي أنهك جسدها الصغير ، لقد كنا نبكي ونحزن عند سمعنا لهذه القصة ،ولم نكن نعلم إننا عندما نكبر سنرى قصصاً في واقعنا أشدة قسوة وأكثر إيلاماً للقلب.
في مدينة غزة المحاصرة منذ 10 سنوات بائع جرائد لم يبلغ من العمر 11 عامًا، يتجول في شوارع المدينة من الصباح حتى المساء ليعيل عائلته الفقيرة، كان محمد يحلم أن يعيش كباقي الأطفال في سنه يذهب إلى مدرسته في الصباح، ويلعب مع أصدقائه في ساعات العصر، ويعود إلى بيته في ساعات المساء متعبًا من اللعب والركض مع أصدقائه.
استيقظ محمد من هذا الحلم الجميل على كابوس الحياة المريرة التي لم ترحم صغر سنه، فترك مدرسته وأصبح يتجول في الشوارع حاملًا الجرائد من اجل توفير لقمة عيش كريمة له ولأسرته الفقيرة .
كانت الأيام تمر طويلة وقاسية على جسد محمد الصغير، الذي أنهكه التعب الشديد جراء التجوال الطويل في الشوارع من أجل بيع الجرائد ليكسب قوت يومه، وفي يوم من أيام محمد القاسية والطويلة ،قابلته صحفية لتسأله عن أمنيته للعام القادم، فكان الجواب الصادم للصحفية ولكل من شاهد اللقاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي” أموت يعني مثلاً” فردت عليه الصحفية باستغراب شديد ليش؟! “لأني بكره الدنيا بكرها” كان جواب محمد شديد العفوية يعبر عن ظروفه القاسية التي كان يعاني منها.
انتشر هذا اللقاء كالنار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي، ليعبر كل من راه عن حزنه الشديد وتعاطفه مع هذا الطفل الصغير، الذي أتعبته قسوة الحياة وأرهقت روحه الصغيرة ليطلق أمنيته الصادمة للجميع.
اكتفى كل منا بالتعبير عن حزنه وتعاطفه مع محمد على شبكات التواصل الاجتماعي، دون القيام بأي خطوة في الواقع من أجل إنقاذ محمد وأمثاله من هذا الواقع المرير، الذي يعيشون فيه جراء الوضع الاقتصادي المرير الذي يعاني منه قطاع غزة جراء الحصار الخانق الذي فرض على قطاع غزة منذ 10 سنوات.
لقد صدمنا جميعًا عندما علمنا قبل أيام قليلة بوفاة محمد جراء سقوطه من مكان مرتفع عقب إنزلاق قدمه، لتتحقق أمنيته الذي تمناها قبل عام كامل، لنكتفي مرة أخرى بالتعبير عن حزننا على وفاة محمد بكتابة بوستات وتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل إراحة ضمائرنا ولنواسي أنفسنا بأننا فعلنا كل ما نستطيع من أجل محمد وأمثاله.
رحل محمد ليكون شاهدًا علينا جميعًا يوم الحساب، فنحن تركناه ولم نمد له يد العون والمساعدة من أجل إخراجه من الحياة القاسية التي كان يعيشها، ليس محمد وحده الذي يعاني من هذه الظروف القاسية ،بل هناك الكثير والكثير من أمثال محمد ينتظرون بشغف وشوق أن نمد لهم يد المساعدة من أجل إنقاذهم من حياة الشقاء التي يعيشون فيها.
فيا ترى هل تتحرك ضمائرنا من أجل إنقاذهم أم سنكتفي بالمشاهدة والتعبير عن حزننا على مواقع التواصل الاجتماعي دون أن نفعل لهم أي شيء؟