تابعتُ السجالات المختلفة في الذكرى الثالثة لمجزرة رابعة العدوية، أو قبيلها، والتي جاءت على هيئة شهادات، من وزير أسبق بوزارة الدكتور قنديل، مستقيل، ثم الشيخ السلفي الأشهر، مروراً بآخر في معسكره، وما نقله أحد الصحفيين عن مصادر أخرى، ثم شهادة وزير بوزارة الدكتور هشام قنديل، وأخيراً شهادة السيدة شيماء نجلة الرئيس محمد مرسي، فك الله أسره.
وبداية هالني التناول المباشر للأحدث، وفي ثناياه ما تزالت الدهشة تراوح صاحب هذه الكلمات، لا من طريقة معالجة الأمور المصيرية إبان فترة حكم الرئيس مرسي، بل من تناول أنصاره والذين هم في معسكره لتلك الأحداث الخطيرة، ما تربت عليها وتلتها.. حتى بعد ألف ليلة وأكثر من ليلة مرت مريرة على مصر والأمة كلها، من “المجزرة” الأشهر التي أنهت كل طريق لمحاولات الصلح في وقتها.
ما زلنا من آسف شديد “مثاليين”، نعامل الناس في أمور السياسة بأخلاق الدعاة، بداية من قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي حتى الدكتور محمد البرادعي، وفي المنتصف الغرب وقادته، ونفترض في الجميع أن يكونوا على نفس القدر من التربية والأدب والتهذيب، حتى إن لم نحسن لا فهم أمور السياسة غير الواضحة أو حتى الطاهرة في أحيان كثيرة، ولا أصحابها بالتبعية وهم غير بعيدين عن صفاتها.
ومن أولوليات التعامل مع البشر، لا السياسة أو حكم الدول والتطلع إلى أمل التغيير في الأمة، ألا تلوم الذئب إذا استطاع الانفراد بمسالم لا يستطيع دفاعاً عن نفسه، إن لم يكن ضحية، وإن كنتُ لا أحب اللفظ الأخير، فالأمر يخص فئة شريفة نقية، في مجملها، وتعلماً من دروس ينبغي أن يمر عليها وقت كافٍ، لا لكي تكون تاريخاً نطويه، ونمجد محنتنا فيه، بل لنحسن قراءة الاحداث المريرة، ونزيح هوى النفس، وعلى رأسه في هذا الأمر، أمر الدماء والمذابح في مصر .. كيف يمكن أن نقود الامور الآن بعقلانية، انتظاراً لجولة جديدة قادمة تكون الدائرة على المسيئين المجرمين، لكن يوم يمتلك هذا الصف أدواته جيداً، أو الذين سيكونون في مكانته حينها، وهو أمر غير مستبعد على رب العزة، لكن متى توفرت له الأسباب الحقيقية، وليس منها ولا على رأسها، بالطبع، الدهشة، والرثاء للذات.
أول شعور يباغت القارىء للشهادات ثم المتابع لردود الفعل عليها، وإن المُنصف لا يملك إلا أن يقرر أن كل ما يطلق عليه “شهادة” ما هو محصلة ما رآه كل واحد منهم، أو جزء مما رأى، وإن لم يخل الأمر من وجهة نظر للقائل، بدرجات تتفاوت، ولا تكتمل “شهادة” أحدهم أو إحداهن، مع التقدير، إلا بردود الفعل عليها أو عليه، وأول شعور يباغت القارىء المُدقق المنصف أننا نقرأ الأمور من خط النهاية، ونريد أن نشهد الدنيا على أننا كنا “ضحايا” وثقنا بالجميع وخذلونا!
وللحقيقة فسواء أكانت الصورة كذلك أم اختلفت قليلاً فإن الحقائق الباقية تقول باختصار إن الإخوان لم يحسنوا “سياسة” الامور لا في السلم بعد 25 من يناير 2011م ولا وشك المذابح، وإن مسؤولية أدبية ومعنوية سترهق ضمير قيادات حرة طليقة تمارس دورها في محاولة توجيه الجماعة اعترفت بذلك أم لم تعترف، وصدق الشاعر:
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ..وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ..!
وليس في الأمر “تعرض” للجماعة في وقت محنة، والعياذ بالله، كما يحسن بعض الذين يدافعون تحسين صورة كلامهم، فإن ما كان من دماء سالت آلمت كل حر أبي شريف في مصر، وإن أمر المصابين والمضارين، بل المعتقلين ليقض مضجع كل الذين يعرفون جلال الحياة، إن لم يكونوا يتقون الله، فما من داع للمزايدة، وإن لم يكن خلال سنوات ثلاثة قد جاء أوان المراجعة المتعقلة، وترتيب الخطوات، ووضع تصور للخروج من الأزمة الطاحنة فمتى يجىء الأمر؟
أعجبتني كلمات السيدة “شيماء”، مع التقدير لكلمات أخرى، اقتطعت جزء الصورة وأكدت عليه، واشهدت الله أن صاحبها يقول الصدق المطلق من موقع مسؤولية مقرب، وإنه كرر الكلمات من قبل ولا يريد تكرارها كثيرها، أو هكذا بدت روح الكلمات..
أما كلمات السيدة “شيماء” فاختصرت جانباً من كلمات الوزير السابقة، وشهدت بالصدق الذي نعرفه، ومن ذاك أنه كانت هناك مفاوضات سواء أكانت بحضور “كاترين آشتون”، النائب الأول لرئيس المفوضية الأوروبية، او غيرها، ولكن ما توقفت أمامه هو نقلها قول قائد الانقلاب “عبد الفتاح السيسي” ليلة 3 من يوليو إنه يقوم بانقلاب عسكري ” أتعرف معنى انقلاب عسكري يا دكتور .. يعني لن أبقي فوق ظهر الأرض منهم أحداً”!
بمعنى أن شبيه الرجال هذا، وهو المدسوس الذي على الباطل كان يعرف طريقه بوضوح وثابر عليه، ودعنا هنا من شهادة الوزير المستقيل من وزارة الدكتور قنديل، التي كانت من أوائل هذه الشهادات، ولنتامل في كلمات السيدة “شيماء” أو ليست من “الغفلة” بمكان ليس بالقليل ترك هذا “المندس” ليقود الجيش؟ ويعمل مخططه فيه حتى ليتم تسليم الدولة كلها له قبل ما كان يعرف بمظاهرات 30 من يونيو/ حزيران، وهو ما لم يكن يسلم به المخلوع مبارك مع حبيبه المشير طنطاوي.
سيبادر المدافعون إلى القول:
ـ ومن كان بديلاً معقولاً للسيسي؟
كان من الشروط التي قبلها الرئيس مرسي قبيل مذبحة رابعة المروعة أن يدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة، لا يكون الإخوان جزءً منها، ويستمر الوضع إلى عشرة سنوات، على أن يتولى السلطة من جديد ولو ليوم واحد ليفوض غيره.
الرئيس مرسي بنفسه أقر بفشل تجربة الإخوان في الحكم، من حيث تحديات مواصلة المسؤولية، ثم هو يقبل ألا يترشح الإخوان لمدة 10 سنوات كاملة، فيرفض العسكر لإنهم، لا يريدون المحاسبة على جرائمهم بعد عشر سنوات، كيف يمكن أن تتم قراءة هذه الكلمات على أن الإخوان أحسنوا سياسة الحكم في مصر؟ وهي تقول بوضوح أن العسكر مجرمون عرفوا أنهم ينقلبون على رئيس منتخب، لا يملك من أمر الحكم جميع مقدراته، وأولها القدرة عليهم والاحاطة بهم، وحسن التصرف معهم بحكمة وحنكة بل بقوة، وإن كان الأمر كذلك فإن الحل لم يكن افتراض الملائكية من جميع الذين تعامل الإخوان معهم من الساسة، فإنهم لم يكونوا كذلك، وباختصار، لن يكونوا إذا ما كان السادة الافاضل من الإخوان، مع الاعتذار، غير حصيفين في التعامل أو التصدي للحكم وهم لا يملكون أدواته ولا حتى ملكاته، فلماذا انتظروا من العسكر أن ألا يكونوا مجرمين معهم، ثم هاهم يندهشون من فعالهم الآن؟!
ورد الله الدكتور “محمد البلتاجي” سالماً إذ يقول في يونيو/ حزيران 2011م: أشعر أن مؤامرة عالمية تحاك بالإخوان للزج بهم في آتون حكم مصر..!
أما حديث رابعة فله بقية.. إن كان في العمر بقية..!