قبل الانقلاب لم أكن أعلم أن الدين يمكن أن يكون هو الآخر “أفيونة” للشعوب ، كنت أتفهم أن تستخدم الأغاني والأفلام وكرة القدم وشتى أنواع الإلهاء بغية الختم على عقول البشر فلا يفكرون إلا في حاجات حاضرة دون أن النظر في قضايا مصيرية أعلى قدرا وقيمة؛ لكنى لم يخطر ببالى أبدا أن يكون الدين هو إحدى تلك المخدرات !
عندما قامت ثورة يناير، اتجهت الأنظار إلى شيوخ طالما أكبرناهم والتففنا حولهم، نستمع ونستمتع فترق قلوبنا للتذكير بالله وطاعاته، وهنا لا أعمم في حديثى عنهم، فمنهم من لم يخن الله فينا، كنت أسمعهم يتحدثون عن كل شئ فى الدين فيما عدا ما يتعلق بأمور الحكم، وكنت أرضى بذلك لتخيلي أنهم إنما يفعلون ذلك بذكاء حيث أن الإعداد يأتي بجمع القلوب على محبة الدين أولا، ثم يأتى دور رفض الظلم ثانيا. جاءت الثورة فتعلقت بهم أبصار متابعيهم يبتغون عندهم جواب شاف عن سؤال، هل الثورة حلال أم حرام ؟ فقالوا حرام !
ظننت أيضا أن ذلك استنادا لحكم شرعي خالص وأن فى الأمر فسحة لاختلاف العلماء. وليقض الله أمرا كان مفعولا، كانت الثورة، فصارت موجات الفتن بعدها تضرب جوانب البلاد، وفى كل مرة يهرع الناس إليهم فلا يجدون لديهم جوابا ، فقلت الأمر أكبر منهم فاتركوهم، وهنا بدأت أجد خذلانهم وتراجعهم، وربما عدم رؤيتهم الكاشفة لأمور كثيرة، بدأت أرى أنهم يحصرون الدين في زاوية ضيقة هي أبعد ما تكون عن التطبيق، بدأت أرى أن الحديث عن حرس للحدود، والحفاظ على حدود لله، وكل ما استهلكوا مشاعر الناس فيه مجرد كلام تبخر عند المحك؛ كل ذلك كان مقبولا إلى أن حدث الانقلاب .
لم يكن الانقلاب عسكريا فحسب بل كان انقلابا قيميا، فوجدنا من أيد ووجدنا من أمسك العصا من المنتصف ووجدنا من وقف مع الحق ووجدنا من اعتزل. فأما من أيد فلا حاجة لنا فى الحديث عنه، واما من أمسك العصا من المنتصف ومن اعتزل فقد كانا عونا للباطل فتحولا إلى فتنة ربما تفوق فتنة الانقلاب نفسه.
إن أبشع أنواع السموم ذلك الذى يدس للناس فى عسل الدين، فالدين فطرة، ولا أدل على ذلك من أن كثير من رؤساء أكبر دول العالم وزعماء احزابها مازالوا يستخدمون الدين للتأثير على الناس فى قضايا تعجز علمانيتهم بكل منطقيتها عن أن تقنع الناس بها. أقنع ماسكو العصا من المنتصف والمعتزلون الناس أن المنقلب حاكم متغلب وجب له السمع والطاعة، وأن الخروج ضده يفتح باب الفتن، وأن مرسي ومن أيده ماهم إلا لاهثين خلف السلطة لا يأبهون بأرواح من معهم، وأن لو كان فى مرسي خيرا وطبق شرع الله ما كان جرى له ما جرى !
وإذا قسنا على منطقهم _مع الحفاظ على الفارق بين انسان عادى ونبي، فإن زكريا عليه السلام لم يكن فيه خيرا لذلك نشر في الشجرة، وأن يحيى عليه السلام لم يكن فيه خيرا فتسببت في ذبحه بغى !!!
وليبرروا تخاذلهم عن الاجتهاد في الأمر، شبهوا ما حدث بفتنة علي بن أبى طالب ومعاوية بن أبي سفيان! تلك المطابقة الظالمة لمن قرأ التاريخ ويعلم أن فتنة على ومعاوية دارت بين فريقين كلاهما على حق، أما ما جرى فى مصر فهى فتنة بين حق وباطل، بين شرعي ومنقلب وقد فصلت ذلك في مقال سابق (سلميتنا أقوى من الفتنة).
نحن فى حاجة اليوم أن نصحح مفاهيم شوهها الجهل والانقلاب، أن نعرف مفهوم عالم الدين، نحن أهل السنة لا نعلم وظيفة في ديننا يطلق عليها “شيخ”، كان الصحابة والسلف والتابعون يعملون فى كل الحرف وكانوا على علم شرعي، لسنا كالمتصوفة أصحاب طريقة ومقام نوقد عليه الشموع ، لسنا كالنصارى نقدس الرهبان والقساوسة، أزهرنا على قيمته ليس فاتيكانا يخرج منه العلم ولا علم سواه، بلى، كل منا عليه أن يختار عالم ثقة يسير خلفه ويهتدى بعلمه فى ظلمات دروب الدنيا، ولكن على كل منا أن يتعلم كيف يختار، فانت لا تسير مغمض العينين خلف شيخك، بل تستدل على شيخك من مطابقة قوله لصحيح دينك، عليك أن تتعب نفسك قليلا، أن تقرأ، أن تبحث، أن تتعلم، لتعى من يناديك إلى الجنة ممن يسحبك على وجهك لجهنم، لم يعد لديك حجة، فقد انتشرت وسائل التعلم فأبطلت حجة صعوبة الوصول إليها، وعليك أيضا أن تنتقى مصادرك، فتكون لأئمة كبار لا خلاف عليهم عند جمهور العلماء، عليك البحث، وعلى الله الهداية، فلا تضيع عمرك فى البحث عن شيوخ يحللون لك ما يرضى نفسك وان النفس لأمارة بالسوء.
وعن حوار الشيخ حسان مع جريدة الوطن ، فأذكر أن نفس الحوار قد أثير بعد فض رابعة والنهضة مباشرة، ويبدو أن الجريدة قد أعادت تدوير الحوار فى ثوب جديد وبرغم أن الشيخ نفسه أقر ما ذكر فى الحوار إلا أنى أؤكد على أن أسلوب الجريدة فى سرد الحوار يعتمد على الإثارة لجذب القراء، أدلى الشيخ جمال المراكبى والشيخ عبد الله شاكر بتصريحات تؤكد ما قاله الشيخ حسان عن أنه تبنى مبادرة صلح بين ما أسماه الدولة وما عممه بالإخوان، وكان من رأيه أن “سنن الله الكونية” تستدعى أن يتراجع الإخوان فمن الحمق أن تقف جماعة أمام دولة، ولا أعلم هل كان الشيخ العز بن عبد السلام أو الامام أحمد أحمقين ومن أتبعهما حين خرجا بفتاوى ضد الحاكم، هل هذا ما يجب ان نربى عليه الأجيال، الجبن !! أن يتشنجوا فى مسائل خلافية كالنقاب والطهارة واللحية والنمص، وحين الجرم عليهم أن يرضخوا لمن أسميته الدولة ؟!
شهد الدكتور صفوت عبد الغنى القيادى بالجماعة الاسلامية على لقاء الشيخ بممثلين عن تحالف دعم الشرعية لدراسة الأزمة وكيفية الخروج منها، تمسك اعضاء التحالف بعودة الرئيس مرسي والدستور ومجلس الشورى وتخوف حسان من رفض المجلس العسكري وبعد نقاش طويل وتجنبا لفشل المفاوضات انتهوا إلى عمل جو تهيئة عن طريق مطالب مبدئية بعدم فض الاعتصام بالقوة والافراج عن المعتقلين وإسقاط جميع القضايا وقد طابق ذلك سرد الشيخ حسان للأحداث فى حواره.
اعتبر الشيخ أن الإخوان قد سعوا وراء كرسي، وتجاهل شرعية الرئيس الذى بايعه، والطريف أنه ألقى بتبعات حرمة الدماء على الفريق المظلوم لصالح الفريق الذى بغى ، فعلق مسئولية الدماء فى عنق أهل الشرعية واعتبر طلباتهم بأن يعود مرسي وكافة مؤسسات الدولة المنتخبة درب من الجنون ، كما راى فى ذات الحوار أن حل الأزمة اليوم يكمن فى دفع الدية لأهل القتيل ، وبذلك تكون الأزمة والحل واجبة على الطرف الذى بغى عليه ، فهو السبب فى الدماء وهو المنوط بقبول الفدية ليحل الأمان !!! وفى النهاية حمل مطالبهم الى قائد الانقلاب وهى عدم فض الاعتصام بالقوة ووقف الحرب الاعلامية والافراج عن المعتقلين واسقاط التهم عنهم .
لا أعلم ما هذا الود الذى يكنه زعيم الانقلاب للشيخ مما يجعله يقربه ويقول له أن ما لم يعطه للأوروبيين والأمريكان سيعطيه له ؟ ولماذا كانت ردوده عليه بهذه الرقة فى حين أن شهود آخرين كالشيخ محمد مختار المهدى قيل له” من انت ،انا لا اعرفك ،اسكت، من أذن لك بالحديث، انا لا أحب أن اسمع كلامك ،من أتى بك إلى هنا، أريد أن أسمع كلام هؤلاء (حسان والمراكبى)”.
واجهه الشيخ المهدى أن ما فعله من انقلاب على رئيس شرعى هو امر لا يبشر بخير ودعاه ان يفرج عنه وصارحه بان ما فعله حربا على الدين ومصادرة للراى الآخر ، فرد المنقلب أن لا شئ اسمه مشروع اسلامى وأنه لن يسمح به فى المنطقة ، قيل هذا الكلام فى حضرة الشيوخ حسان والمراكبى وشاكر ، ولا يحدثنى احد قط فى هذه اللحظة عن عقل وحنكة وحصافة ، فقد كشر الرجل عن أنيابه ضد الدعوة التى رأى الشيخ حسان ان الاخوان باعوها فى مقابل كرسي ، هى الآن تمحى أمام عينيه بالكلية.
هؤلاء المشايخ الكبار الذين كانوا يقاتلون من اجل الشرع والشريعة أيام مرسي وخذلوه وقاموا بتعجيزه أمام جماهيرهم العريضة واتهموه بالضعف فى دينه ، الآن يواجههم هذا الذى يجلس أمامهم بأنه لن يسمح بمشروع اسلامى وليتهم صمتوا إلا أن الشيخ المراكبى صنف من اعتصم فى رابعة على أنهم من الخوارج فاطمأن القاتل إلى ذلك ،على عهدة الشيخ المهدى رحمه الله وإن كان الأمر غير ذلك فعلى الشيخ المراكبي ان يكذب هذه الرواية .
خرج الشيوخ الثلاثة مهللين بعد لقائهم بالمنقلب الذى اشترط عدم خروج أية مسيرات من الاعتصام ،وأن يتواجد المعتصمين على الرصيف فقط ، وأن يفتح الطريق بشكل كامل أمام حركة السيارات ، وأن يسمح بالتواجد الأمنى داخل الاعتصام !!كما أنه رفض الافراج عن المعتقلين او اسقاط التهم عنهم بدعوى ان الأمر بيد القضاء وطالب بأن يغير المعتصمون خطاب المنصة !
ولا أفهم هنا من أين نبعت فرحة الشيخ حسان ورفاقه ومن أين جاء شعورهم بالنصر ، وكأن أمر جلل كهذا يمكن حله بجلسة عرفية كالتى كان يستدعى فيها كل مرة تحدث فيها فتنة طائفية فى أحد القرى !!! وكيف اختزل القصة كلها فى فض الاعتصام من عدمه ، وكيف توقع أن يهلل أعضاء التحالف بما خلصوا إليه ولم يتم الاستجابة لطلب واحد مما أرسلوا معه ؟!
وبحسب رواية الدكتور صفوت عبد الغنى فإن التحالف لم يستحسن أو يقبل شروط العسكر الاذعانية التى ماهى الا فض للاعتصام بطريقة اخرى وعليه فقد رفض ما آتى به المشايخ .
وفق رواية الشيخ المراكبى ، اجتمع هو والشيخ حسان وشاكر على أن يذيعوا ما خلصوا اليه على الناس فى مسجد الحصرى ، ولكن للأسف كانت طريقة عرضهم للأمر توحى بأن هناك أمورا قد تم الاتفاق عليها بين قيادات التحالف والعسكر وهذا ما لم يحدث ، وبحسب رواية الدكتور صفوت عبد الغنى فقد عاتب ممثلو التحالف الشيخ حسان على ما أوهم الناس به وأعلن الدكتور صلاح سلطان والدكتور صفوت حجازى على المنصة أن شيئا مما قيل لم يحدث وأنه اجتهاد من المشايخ وأنهم متمسكون بالشرعية وعودة الرئيس محمد مرسي .
تحدث الشيخ فى حواره عن أن تعلق الاخوان بوعود كاثرين آشتون ، وقد أوضح الدكتور عمرو دراج على صفحته شهادة تطابق تلك التى كتبها الدكتور محمد محسوب أن آشتون لم تعرض أبدا التفاوض حول عودة مرسي بل إن حضورها كان لإضفاء الشرعية على الانقلاب وليس لإيجاد حل للأزمة أو التفاوض حول عودة الرئيس المنتخب ، ويبدو أن الشيخ لم يتحقق وقتها من معلوماته وإن كان من يحدث الناس بالدليل من القرآن والسنة ، عليه أن يحمل برهانا على كل ما يصرح به وخاصة إن كان ذو كلمة مسموعة وفى وقت فتنة .
لم أتخيل يوم أن كنت أشاهد هؤلاء الشيوخ على القنوات الدينية أن يكونوا بهذا الضعف عند المحك ؛ ترى ماذا تركوا للعلمانيين إذا هم أبعدوا السياسيين ذوي المرجعية الاسلامية عن أمور الحكم بحجة اعتزال الفتن ؟! لم أتخيل أن تمر أحداث جسام تفتت الصخر كالتى مرت بمصر بعد الانقلاب وهم صامتون ، خرج الشيخ حسن الشافعى مستشار شيخ الأزهر عن صمته ولم يحتمل ولم يخرجوا هم !!!
نسأل الله الثبات .. نسأل الله الثبات .