أخيرا التقى “القيصر الروسي” بـ”السلطان التركي” في مدينة “بطرسبرغ” الروسية بعد طول غياب وقطيعة، في قمة تعد الأهم سياسيا في الوقت الراهن على الصعيد العالمي، ليس فقط لأهمية وكثرة القضايا المدرج تداولها وبحثها في هذا اللقاء فحسب؛ بل لحساسية توقيته وتداعياته أيضا، فهي تعد الزيارة الأولى التي يشد “أردوغان” إليها رحاله عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرض لها، وذلك لخطورة وأهمية المستجدات العسكرية والسياسية.
فانعقاد القمة الروسية التركية يتزامن مع تصاعد وتيرة الخلافات التركية الغربية برأسيها (الأمريكي– والأوروبي)، وتتزامن أيضا مع تطورات معركة حلب التي من شأنها قلب موازين دولية كثيرة في سورية والمنطقة العربية، كل هذا وذاك جعل من لقاء القمة التركية الروسية حدث عالمي بالغ الأهمية، يرادفه عديد من التساؤلات والتكهنات المترامية عن شكل وكنه القرارات التي سيسفر عنه هذا اللقاء، وإن كانت ثمار هذه الزيارة “أن أسفرت عن ثمار” لا تزال تحتاج إلى وقت ليس بقليل لتطبيقها وتنفيذها.
يعتبر لقاء الرئيس التركي بنظيره الروسي يوم الثلاثاء الموافق 9-8-2016 بداية جديدة لتحسين وتطبيع العلاقات الروسية التركية، التي قلما انسجمت أو توافقت من قبل، فمنذ تأسيس الدولة التركية عام 1923، وإعلان قيام الاتحاد السوفيتي بعد انتصار الثورة البلشيفية عام 1917، والعلاقات التركية الروسية في توتر وخلاف، باستثناء سنوات الاتفاق أو بالأصح “التحالف” في عهد مؤسس الدولة التركية “مصطفى كمال أتاتورك” بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام (1914-1918)، لتعود العلاقات بينهما الى التوتر من جديد في نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وفي أواخر عهد “جوزيف ستالين” وانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في نهاية الخمسينات، واستمرارها الى يومنا هذا، وتزايد وتيرة الخلاف بعد وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى سدة الحكم في تركيا، بالرغم من تخلل محاولات عدة من الطرف التركي والروسي أحيانا لتحسين العلاقات وإيجاد فرص أفضل للتفاهم بينهما.
لا شك بأن طاولة التفاوض التركية الروسية مزدحمة جدا بالقضايا العالقة والخلافات العميقة، التي سيتم بحثها وتداولها في المفاوضات، للوصول إلى حل يرضي الطرفين، وعلى ضوء وقدر الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه، سوف تتضح صورة وشكل العلاقات التركية الروسية القادمة، ومدى تطورها وامكانية تحولها إلى تحالف جديد بين البلدين، بالرغم من أن هذا التوقع أو التكهن مطروح فعليا على أرض الواقع وبجدية، وأول بشائره هذ القمة المنعقدة بين “بوتين” و “أردوغان” في روسيا، والتي تعد أولى الخطى تجاه ولادة هذا الحلف الجديد، إلا أن كثيرا من السياسيين والباحثين وأصحاب القرار في كلا البلدين، يستبعدون حدوث هذا “في الزمن القريب” على الأقل؛ بسبب عمق الخلاف، وتباعد الاتجاهات السياسية، وتباين وجهات النظر، بل وتضارب المواقف السياسية بينهما أيضا، وقد عزز أنصار مبدأ استحالة إقامة تحالف تركي روسي موقفهم هذا بالعديد من الحجج والبراهين الصحيحة، والتي تحمل على محمل الجد والنقاش، فالموقف التركي المتعلق بالأزمة السورية، معروف ومعلن مذ أول يوم لها، ألا وهو وجوب إسقاط نظام “بشار الأسد” وتنحيته، بينما يصر الموقف الروسي ويأكد على أنه لا مساس أو اقتراب من النظام السوري في أي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الوصول إلى نقطة اتفاق في هذا المضمار “تحديدا” يحتاج إلى معجزة أو أشباهها لتحقيقه، أما عن الأزمة الدائرة بينهما على القرم وأوكرانيا فهي الأخرى تحتاج إلى تنازل كبير من كلا الطرفين وتغيير سياسة الخلاف القائم بينهما عليها، والأمر ذاته في ملف النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، إذن فنقاط الخلاف الكثيرة والكبيرة بين روسيا وتركيا تعتبر سدا منيعا وليس مجرد حجر عثرة في طريق المصالحة، وقد تحول بين رغبة الدولتين في تجاوز الخلافات، وبين تحقيقها على أرض الواقع.
إن المساعي الروسية التركية نحو احداث تصالح مثمر بينهما، من شأنه أن يسفر الى تغيير جذري وعميق في السياسة العالمية، وانقلاب جديد في موازين القوى العالمية، يحتاج من البلدين الى جهد حثيث ومتواصل وإرادة جبارة لكسر جبل الجليد الذي اتسعت رقعته على مدار سنوات طويلة من العداء التاريخي، والحروب الدامية التي خاضتها دولة السلاطين العثمانية مع روسيا القيصرية، والحرب الباردة التي تلت تلك الحقبة الزمنية، ومن ثم الصدام العنيف خلال الأزمة السورية، ولكن، للمصالح طريق بل طرق أخرى كثيرة لا يعرفه إلا المحتاج اليها، وللسياسة دهاليز وسراديب لا ضير من اتباعها في الأزمات والشدائد، فكما السياسة لا دين لها ولا أخلاق؛ المصالح أيضا لا دين لها ولا أخلاق، وكما هو متعارف دينيا بأن ” الماء يبطل التيمم”، متعارف سياسيا أيضا بأن “المصالح تبدل المواقف” مع شاسع الفرق والمقارنة بينهما، فمتى حضرت المصالح غابت المبادئ، وتبدلت المواقف، وتحولت السياسات بين ليلة وضحاها، لذى فليس هناك مستهجن في عالم السياسة القذر، وأهلا بعدو الأمس اذا قضت المصلحة بهذا، وقد قضت المصلحة الروسية التركية بهذا، وأوجبت ضرورات المرحلة على كل منهما الوقوف معا كتلة واحدة أمام الكتلة الغربية (أمريكا-أوروبا)، تحديدا بعد التباعد البين بين واشنطن وأنقرة عقب الانقلاب الفاشل، وتبادل الاتهامات، والتآمر لإطاحة الرئيس التركي، وبعد تدهور العلاقات الأوروبية التركية ايضا، ومطالبة بعض دول الاتحاد الأوروبي بوقف المفاوضات مع تركيا، وطردها من الحلف الأطلسي، بعد المهاترات السياسية السلبية بين الطرفين، كل هذه التداعيات في العلاقات التركية الغربية الراهنة، تدفع بتركيا دفعا لتشكيل حلف جديد لها، يضمن لها الحفاظ على مكانتها وكيانها من الانهيار التام ويهدد مصالحها بعد خلافها الضاري مع الغرب، وينصب أيضا لصالح “الدب القطبي” روسيا، التي تحاول جاهدة جذب تركيا إلى حلفها، لتشكيل ثلاثي قوي في منطقة الشرق الأوسط، (إيران – تركيا- سوريا ) بقيادة روسيا العظمى، والذي من شأنه زعزعت نفوذ الغرب في المنطقة، بالإضافة إلى بسط سيطرة روسيا العظمى على الشرق الأوسط بسهولة ويسر.
إذن فتركيا لا تزال تملك بيدها الورقة الرابحة والقادرة على تغيير السياسة الشرق أوسطية برمتها، والتي من شأنها قلب موازين القوى العظمى في المنطقة، ولا تزال تملك قرار الانحياز إلى أي معسكر من المعسكرين وفق كفة المصالح الراجحة لديها، بيد أنها تعلم تماما بأن التلويح بهذه الورقة بين الوقت والآخر، نحو الغرب لتغيير مواقفه وسياسته التي يتبعها تجاه تركيا؛ واجباره على تنفيذ كامل طلباتها التي ضربت أوروبا وأمريكا بها عرض للحائط؛ يختلف كثيرا عن انضمامها فعليا للمعسكر الروسي، فمتى أقدمت تركيا جديا نحو هذا الاتجاه تكون قد ألقت من يدها أهم ما لديها وآخره لتظل بعد هذا صفر اليدين، إضافة إلى أن ثمار الحلف الروسي التركي لم يحن وقت قطافها بعد، ولن تأتي أؤكلها في القريب العاجل، وبالتالي فإن خوض تركيا في هذا المضمار المجهولة نتائجه نوعا ما؛ واقدامها على أمر جلل كهذا قد لا تحمد عقباه أبدا، هو بالطبع ضرب جنون لا جدال فيه، وأن كانت التعهدات والمغريات الروسية المقدمة لتركيا كبيرة جدا، فهل تلقي تركيا بآخر ورقة رابحة من يدها وتدلي بكامل دلوها في المياه الروسية ؟ أم ستكون أكثر عقلانية واتزان؛ وتجد لنفسها مخرجا آخر من هذه الأزمة، يكون أقل ضررا وأسلم جانبا؟ آخذة بعين اعتبارها أن لا خير حقيقي يرجى من وراء روسيا، التي عجزت عن حماية إمبراطورية الاتحاد السوفييتي من الانهيار والتجزئة.