منذ بداية انهيار أسطورة الملهم الذى لا يقهر، تراجع أصحاب الأيدى الناعمة عن تأييد بطلهم المفدى الذى استدعوه ليحارب بالنيابة عنهم ويزيح رئيس جاء بانتخابات شرعية نزيهة؛ ذلك الصنديد الذى هللوا لكثير من تجاوزاته وفي أحسن الأحوال صمتوا في ترقب وانتظار أن يستطيع أن ينهي الأمر بشكل لا يلقى عليهم بظلال جرم.
في سبيل أطماعهم، تجاهلوا مبادئ لطالما نادوا بها في سبيل التخلص من فصيل كرهوه منذ اللحظة الأولى؛ رضوا به فقط ليكون أكتافا ترفعهم لأعلى ليصيبوا ما أرادوا من أهداف؛ ولكن حين جاءت الانتخابات بما لم تشته النخب، أهالوا التراب على كل حرف لفظوه عن ديمقراطية وحرية وحقوق إنسان وعدالة اجتماعية، ومن ثم روجوا هم أنفسهم لمبادئ مضادة ليستتب لهم ما ضيعوه بأيديهم بعد ثورة يناير.
توالت منذ شهور معدودة اعترافات وتوبات لـ”سنيدة” معسكر الانقلاب، فهذا كان دورهم الحقيقي في الفيلم و لم يفطنوا لذلك وقتها، فاحتكارهم الثورة ورفضهم أي فكر آخر قد يؤدي إلى غير ما أملوا به، جعلهم لا يتوقعون نتائج غير التي رسموها، إلا أن اعتذاراتهم لم تكن في حقيقة الأمر سوى عملية تجميل وتبرؤ من ذنب وغسيل أيد من نتائج أليمة، فكل يعتذر عن اشتراكه في ثورة 30 يونيو أو يتراجع عن تأييده ويلبس مسوح الأبطال ويرفع سيفه الخشبى ليحفظ ماء وجهه ويعود للشاشات كان شيئا لم يكن، لكنه لا يعترف أبدا بجريمته ضد شعب تلاعب بعقله، ولا بحقائق زيفها ليصل إلى مراده، ولا بشرعية رئيس محبوس كان هو أداة انقلاب ضده، ولا بنصيبه من الذنب في حق نفوس أزهقت وفتيات اغتصبت وقلوب أمهات فطرت وأعمار شباب ضيعت، ولا بطامة كبرى جر البلاد إليها، لم يعترف أيا منهم بأحقية من خرجوا يوم رابعة مثلا في الاعتراض، لم يعترفوا بحقوق شعب خرج وأدلى بصوته وأراد يوما هذا الذى انقلبوا عليه، تحدث كل منهم وكأنه لم يكن شخصية عامة أثرت بالجمهور، وكأن خطأه كان فرديا لا يختص بأحد سوى نفسه ..
لدينا على سبيل المثال لا الحصر ..
الإعلامى يسري فودة الذي حرص في بداية مقال له على المساواة بين رئيس منتخب وآخر منقلب، بين خطأ وخطيئة، بين ثورة وانقلاب، سعى في تساؤلاته أن يبدو كالمخدوع في كل ما جرى وكان، وبخفة ظل غسل يديه من عمل شائن وعاد إلى منصة الحديث عن الثورة والثوار، فقد أبدى استيائه من ترشح المنقلب وأعلن شجبه لما فعله (بمحتلي) ميدان رابعة والنهضة -على حد تعبيره- بل إنه طلب منه الاعتراف بها كمذبحة وبذلك نفى عن نفسه شبهة الموافقة عليها قولا أو علما أو صمتا، تعجب فودة من أن المنقلب لم يحرك ساكنا حين نعتت يناير بالمؤامرة وتساءل عن مدى اقتناعه بمبادئ ومطالب الثورة الحقيقية، اتهمه بتجاهل تسريبات الرئاسة وطالبه بتقديم شرح لها، هاجمه برقة لتعاونه مع بعض دول المنطقة التي ساعدت في خنق الثورة ولأنه لا يرى حلا لمصر سوى الديون، استنكر عليه بلطف علاقته الحميمة بالكيان الصهيوني وسأله لم لم يتحاور مع الشعب في قضية هامة كـ”تيران وصنافير” ..
تلك كانت تساؤلاته التي لم تتعرض من قريب أو بعيد لعمق القضية، فهي مجرد أسئلة مذيع في برنامج حواري، وكأنه لم يكن يوما جزءا من معركة دارت رحاها ضد أول مكتسب لثورة يناير متمثل في رئيس شرعي منتخب، وكأنه كإعلامى كبير لم يقرأ حرفا عن ديمقراطيات العالم ولا كيف تنكل الانقلابات بالشرعية ومؤيديها، وكأننا لم نشاهده على الشاشات ونتابع حواراته، يعتمد جميع العائدين على ذاكرة الشعب الذبابية ولكن لسوء حظهم هناك من يملك ذاكرة الحمام الزاجل .
كذلك ظهر الدكتور عمرو حمزاوي في لقاء له على شاشة التليفزيون العربي التى يبدو أنها قد اشترت حقوق بث الاعترافات الحصري، كان كلام الدكتور حمزاوي من أكثر ما سمعت تعقلا وقربا من لب القضية، وذلك بحكم دراسته وعمله، فالرجل تحدث بموضوعية ودقة عما حدث واعتذر بشكل واضح عن مشاركته في ثورة يونيو، هو لم يعتذر عن مطالبته بانتخابات رئاسية مبكرة وهذا مقبول لأنه أمر معمول به في دول العالم، ولكنه حدد أن ما لم ينتبهوا له هو توقيت هذه المطلب، فدولة في حالة هياج بعد ثورة ما كان يصلح فيها مطلب كهذا وكان من الطبيعي أن تؤول الأمور فى النهاية لعودة النظام القديم، أعلن بصراحة أن ما حدث كان انقلابا عسكريا متكامل الأركان، وأن رابعة كانت مذبحة تسببت فيها النخب الليبرالية إن لم يكن بالتأييد فبالصمت عنها، اعترف بمرسي كرئيس منتخب ديمقراطيا وأنهم كنخبة استغلوا للإطاحة به .
بالرغم من صعوبة استيعابى أن دكتور في العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية لم يقدر أن دعوات لقلب نظام الحكم جاءت صريحة من جبهة إنقاذ هو أعلم بعناصرها وأعلم بما كان يدار فى كواليس عملها واتصالاتها إلا أني أتعامل الآن مع واقع أن الرجل من أفضل من قدموا اعتذارا عن مشهد كبير كان هو أحد مكوناته الصغيرة -كما وصف-، آخذ على حوار الدكتور حمزاوى هنا نقطتين، الأولى أنه انتقد أداء القطاعات الشعبية التي انساقت خلف “هيستريا” العسكر والتي كان يراهن عليها للحفاظ على التجربة الديمقراطية، هذه القطاعات الشعبية يا دكتور حمزاوي نعلم جميعا عمق الجهل الذي ضرب جوانبها لعقود، هذه القطاعات تستقي ثقافتها من فيلم أو مسلسل أو برنامج ترفيهي، لعبت على مشاعرهم -وليس على عقولهم- برامج حوارية خاطبتهم بلغة دارجة لا تحتوي على مفاهيم مقعرة استخدمها القائمون على العمل الثوري “الشيك” دون شرح ، وحين لم يرض الثوار عن أول منتج ديمقراطي، تواطأ العاقل منهم بالسكوت على عكشنة الإعلام، وانحدر الموتور منهم إلى قلب الحقائق وتزييف المبادئ، فأصبحوا لسان العسكر الذى ينطق به، هذه القطاعات الشعبية كانت ضحية لنخبة كانت محط ثقتهم، نخبة تحركت – على عكس ما تشيع – لمصالح تخدم فكرة استحواذهم على الحكم، فماذا كنت تنتظر منهم؟ أن يدافعوا عن ديمقراطية لم يفهموها بداية، وزادت الطينة بلة حين تم تشويهها؟ كان يمكن أن يعلو رد فعل هذه القطاعات إلى المستوى المطلوب لو أن النخبة عامة تكاتفت وانتبهت لأهمية توعيتهم لأنهم الظهير الذى يمكن ان يحمى التجربة، فظهير أي ثورة إما ان يكون جيشا وسلاحا أو شعبا قويا بوعيه وثقافته، ما حدث كان استخفافا بمقدرات وطن من قبل النخبة الليبرالية عندما تصرفت بصبيانية، فإما نحن على رأس السلطة، إما نحن كرأس للثورة، إما نحن وياتى الجميع خلفنا، وإما الخراب، لم يكن رد فعلهم أفضل بكثير من مبارك الذى قال (إما أنا أو الفوضى).
والثانية ، أنه ذكر أن كل من عملوا فى المجال السياسي بعد 11 فبراير مارس استعلاء على مطالب الشعب البسيطة، وأود هنا أن نكون منصفين، فنخبة الاسلاميين وبخاصة الإخوان كانوا الأقرب لرجل الشارع ولم يتخلوا عن مطالبه وآلامه، إلا أن جنون هذه الفترة عرقلت كثير من خدماتهم التي كانوا يقدمونها والتي لا يستطيع أحد أن ينكر أنهم كانوا الأقدر فيها، فعندما نتحدث عن استعلاء لابد ان نخص به النخبة الليبرالية والعلمانية التي ابتعدت ومازالت عن الشارع وإن كان أنصار الشرعية يحدثون أنفسهم من وجهة نظرهم، فوضعهم هم أسوأ بكثير.
نشكر الدكتور حمزاوى على هذه المراجعة المتزنة ولكن ، بما أنك اعترفت بأن مرسي رئيس منتخب ذو شرعية، وبأن ما حدث هو انقلاب عسكرى مكتمل الأركان على حكمه، فهل تعترف بشرعيته كرئيس إلى اليوم؟ وأننا لنستعيد المسار الديمقراطي، علينا أن نستعيده، ثم يمكن بعد ذلك استخدام آليات ديمقراطية أيضا لاستبعاده؟ أم أن هذه نقرة وتلك نقرة ؟!
وأخيرا أطل علينا العالم المصرى الدكتور عصام حجى ليدلى هو الآخر باعترافاته التي عكست فكر النخبة العلمانية التي مهدت للانقلاب وشاركت فيه، تحدث حجي بوضوح عن مطالبتهم كنخبة علمانية بدولة مدنية ولم يعد يخفى على أحد مدلول كلمة مدنية في قاموسهم ، فهي مرادف للعلمانية والليبرالية وعليه فعندما انتخب المصريون نظام حكم ذو مرجعية إسلامية فقد حولوا مصر بجهلهم لدولة دينية فاشية دون أدنى نقاش!؛ لذلك كان لزاما على العلمانيين أن يعيدوا المطالبة بالدولة المدنية على أسنة رماح العسكر، وياللعجب ! حصلوا على دولة عسكرية !
ذكر حجى أن كل من كان يعمل فى مؤسسة الرئاسة حين كان مستشارا لعدلى منصور كانوا من العسكريين فيما عدا خمسة من المدنيين، وأن منصورالذي ملك جميع الصلاحيات كان يصدر قرارات خاطئة لا لشئ إلا لأنه كانت تصله معلومات خاطئة من أجهزة الدولة ! وأنه خلال فترة تواجده في الرئاسة لم يكن من يعملون حوله مقتنعين أو محترمين لثورة يناير، والغريب أنه لم يعترض في بداية الأمر وهو من أنصار الدولة المدنية، يبدو أن سكرة التخلص من الحكم الديني -كما يطلق عليه- كانت أقوى من المبادئ. قارن حجي في حواره بين تعليم ووعي الشعب التركي والمصري، وكما جميع النخبويين المتنصلين من مسئوليتهم، مارس دور الاستعلاء، ويبقى الضحية شعب وثق بنخب جعل منهم مثلا أعلى يحتذى به فكرا وثورة وآداءا فقالوا له ما كان لنا عليكم من سلطان إلا أن دعوناكم فاستجبتم لنا.
ذكر حجي أنه لم يشارك في أي انتخابات مرت بها مصر بعد ثورة يناير التي ما حمل ميدانها سوى ثوار رفضوا الظلم لعدم اقتناعه بها أو بالمرشحين، والغريب أنه أقبل مهرولا ليقبل منصبا في الفريق الرئاسي بعد ثورة جمعت كل أطياف النظام القديم من فلول وعسكر وشرطة وأحزاب ميتة ونخبة علمانية أضيفت لمذاق ذو نكهة ثورية !!
والأغرب أنه تذرع بالصبر حين رأى التمرديين “حركة تمرد” يدفع لهم أحد رجال الأعمال لقاء ما قاموا به من جمع توقيعات لعزل رئيس منتخب. اعتبر حجي نفسه مواطن بسيط يستقي معلوماته من التلفاز، وأتساءل إن كان العالم الذى تربى عقله على منهج البحث العلمي، والمقدمات والتوالي، والمعطيات والنتائج شخصا بسيطا، فمن يمكن أن يكون مواطنا واعيا مسئولًا قائدا؟ وإن كان هذا حال العالم فما بال الجميع يهزأ بالشعب الذي لا يزيد أن يكون طفلا يردد ما يكرره الكبار الواعين مصدر ثقته ! ولم إذا كل ذلك الكبر حين يتهمون مرسي بأنه غفل عن هذا او ذاك؟ لم لا يغفر له هو الآخر أنه مواطن بسيط فوجئ بما فوجئ به حجى والبرادعي!
رأى الدكتور حجى أن أناس محترمون كثر يعملون فى مؤسسة الرئاسة إلا أنهم أصيبوا بالإحباط كما أصيب هو، وأعتقد أنه من زاوية رؤيته وضع آماله على هؤلاء في مبادرته التي طرحها تحت عنوان “الشعب يحكم” أو “الفريق الرئاسى 2018″، وهي في الحقيقة مبادرة لطيفة، تعتمد على نسف الماضي كله، وعمل عملية تلقيح صناعي للنظام الحالي، فالنظام باق كأمر واقع لكن عليه أن يعترف بهذه المبادرة ويجعل لها الأولوية في موازنته بل وتكرس له العوائد الداخلية والمساعدات الخارجية كلها لمدة أربع سنوات هى مداها الزمني، تقوم المبادرة على خمسة محاور هي تطوير المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والاقتصادية ومحاربة الفقر والبطالة ، وحرية المرأة وتمكينها وتطوير قانون الأحوال المدنية ، والمساواة الدينية الكاملة وغير المشروطة وتطوير قطاعات الصحة “.
وهكذا تعود القوى الليبرالية والعلمانية إلى حالة الاقتراح اللاإردى لفريق رئاسي، فمبادرة حجي سوف تنسق مع جميع الأطراف -المدنية- القائمة حاليا لتكون المحاور السابقة على رأس أولويات الفريق الرئاسي الذى سيتفقون عليه، بل أنهم سيقترحون تشكيل وزاري مرفق بالفريق الرئاسي لتصحيح مسار ثورة يناير.
ألم تكن هذه ذات الشروط التى ضغطوا على مرسي عند ترشحه للرئاسة أن يوقع أدناها لتكون له مواد فوق دستورية يسير وفقها؟ أولم تكن هذه الإملاءات هي ما كانوا يحذرونه عند كل منعطف أنه إذا لم يلتزم بها سيهدون المعبد على رأسه وقد كان؟ ألم تكن هذه هي نفس الشروط التي اشترطها الجانب الليبرالى بعد الانقلاب ليوافقوا على الاصطفاف؟ أهذه هى الديمقراطية التى بشروا بها ؟ أن يختاروا هم عن شعب كامل؟ أبهذه الطريقة يكونوا قد وضعوا العربة خلف الحصان؟ تلك كانت عبارتهم المشهورة عندما أصر الفصيل الإسلامى على أن تكون انتخابات مجلس الشعب أولا ثم يأتي من بعدها وضع الدستور ليكون الشعب مشاركا في وضع القوانين التي تحكمه، فتصايحوا فى كل وسائل الاعلام، أن هذا الوضع مقلوب وأن الاخوان وضعوا العربة أمام الحصان، فالدستور أولا ثم الانتخابات..
أتمنى أن يكون الجميع قد أدرك الآن لم أرادوا الدستور أولا، لأنهم ليسوا ديمقراطيين وإن ادعوا أنها يقينهم الراسخ، وإن أتوا من بلاد تضرب جذور الديمقراطية في أعماق تاريخها، فمن يفكر بهذه الطريقة يستحيل أن يكون مؤمنا بالديمقراطية، إلا إن كان يتحدث عن إصدار آخر للديمقراطية أعد خصيصا للشرق الأوسط وبلاد العالم النامي، كما الأجهزة الإلكترونية والسيارات !
الآن ياتى الدكتور حجى بنفس الإملاءات ولكن هذه المرة يوجهها للعسكر، ولم ينسى فى طيات حديثه الجانب المؤثر حين ذكر وحدة الصف والاحتقان الاجتماعي والإفراج عن المعتقلين. حجى هو مبشر جديد حان دوره بعد أن انتهى دور البرادعي، وجه جديد برئ، وطالما كان الوجه الجديد أكثر إقناعا. وفي نظري تنضم هذه المبادرة إلى مثيلاتها اللاتى ذكرتهم في مقال سابق تحت عنوان “فقه المساومات”.
وفي النهاية، يظل العائدون رافضون لنتيجة ديمقراطية دعوا لها، رافضون لتحمل مسؤولية جرم اشتركوا فيه، رافضون أن يصطفوا مع ضحيتهم ولو بعد مائة عام، لن يقبلوا إلا بأن يكونوا في سدة الحكم دون أدنى جهد، أعجب دائما من قولهم أن الإخوان ركبوا الثورة؟ ويبدو لي أنهم على استعداد أن يركبوا أى شئ حتى لو كان قطار يفرم جثث من يعارضهم ليصلوا إلى مآربهم .