شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

النيل الخالد يطلب الهجرة

النيل الخالد يطلب الهجرة
كُنْتُ أقرأُ كتابًا لأرنولدَ هوتينجرَ عَنِ التّطرّفِ الإسلاميِّ المزعومِ في ليلةِ "عيدِ وَفَاءِ النّيلِ"،...

كُنْتُ أقرأُ كتابًا لأرنولدَ هوتينجرَ عَنِ التّطرّفِ الإسلاميِّ المزعومِ في ليلةِ "عيدِ وَفَاءِ النّيلِ"، فَإذَا بصوتٍ خافتٍ يقتحمُ جدرانَ المكانِ، وحدودَ الآذانِ، قائلًا بلهجةٍ حزينةٍ، ونبرةٍ جريحةٍ: "السّلامُ عليكَ، يَا أبَا عُمرَ"!! فتعجّبتُ مِنْ هَذَا الزّائرِ الغريبِ الّذي يُشبهُ زوّارَ السّعدني في تخاريفِه الّتي كانَ ينشرُهَا في جَرِيدَةِ الأهرامِ، فمرّةً يأتيهِ المقريزي، وتارةً يزورُه الجبرتي.

قلتُ لنفسِي:" لعلَّنا بَدأنا نخرّفُ مثلُ محمود السّعدني ـ رحمه الله ـ ، فهو وَحسين أمين السّابقانِ، ونحنُ اللّاحقونَ. رددتُ التّحيةَ بأحسن منها: "وعليكَ السّلامُ. ولكنْ مَن أنتَ أيّها الزّائرُ الغريبُ؟" فقالَ: "أنا صديقُك، النّيلُ العظيمُ، سيّدُ أنهارِ الدّنيا، وأكثرُهَا سلامًا وأمنًا، وأشدّها هُدوءًا واستقرارًا". قُلْتُ لنفسي مُتعجّبًا: "أهلًا وسهلًا. لقد كَمُلتِ الآنَ. يتحدّثُ السّعدني مَعَ الجبرتي، وأتحدّثُ أنا مع النّيلِ العظيمِ"!!

قلتُ لَهُ: "وَمَا الّذي أَتَى بكَ إلى هُنَا، في زيورخَ، قلبِ أوروبّا، أيّها النّيلُ العظيمُ؟" فردَّ قائلًا: "أنا مللتُ من المصريّينَ، وسئمتُ من سوءِ معاملتِهم. فقرّرتُ أن أهربَ من التّخلّفِ، وأفرّ من الانحطاطِ"! قلتُ متعجّبًا من فصاحةِ هَذا النّهرِ العظيمِ: "لكنْ إلى أينَ يا سيّدَ الأنهارِ، ويا ملكَ البحارِ؟" فقالَ: "أريدُ أن أهاجرَ إلى سويسرا"!! فقلتُ متسغربًا: "سبحانَ اللّه العظيم!! وكيفَ يتمُّ هَذا، وَمَتَى، وأينَ، ولماذَا؟" قالَ: "تخيّلَ أنَّ المصريّينَ لا يكفّونَ عن أَذِيَّتِي، ولا يتوقّفونَ عَن إهَانتي، ويداومونَ على كتمَ أنفاسِي، ويواصلونَ تسميمِي وَلعني، ولا تأخذُهم بي رحمةٌ ولا شفقةٌ.

لقد كانَ القدماءُ يتذكّروني بينَ الحينِ والآخرِ، فيلقونَ لي بفتاةٍ بكرٍ حسناءَ[1]، تخفّفُ عني بعضَ آلامي، وتُنسيني بعضَ همومي، وتردّ إليّ شبابي، وتُرجعُ إليّ قوتي وعافيتي. أمّا أهلُ مصرَ اليومَ، فبدلًا من أن يلقوا إليّ بحسناءَ تردّ الرّوحَ، يخصّونني بسمومٍ توجعُ بطني، وبدلًا منَ الاعتناءِ بنظافتي، يسقونني مياهَ المجاري، وبدلًا من الاهتمامِ بالمكانِ المحيطِ بي، وتزيينه بالأشجارِ والزّهورِ، كتموا أنفاسي بأبنيةٍ خرسانيّةٍ قبيحةٍ.

وانتهى الأمرُ بي الآنَ إلى أن أصبحتْ مصابًا، مريضًا، أتلوى من مغصِ المعدةِ تارةً، وأتألّمُ من وباءِ الكبدِ تارةً أخرَى، وتوجعني كليتي مرّةً، وأُصابُ بضيقِ التّنفّسِ مرّةً أخرَى، ويُغمى عليّ أحيانًا، وتهاجمني الأزماتُ القلبيّةُ أحيانًا أخرى. كُلُّ ذلكَ والمصريّونَ منشغلونَ عني بأغنيةِ أم كلثوم (يا حبيبي تعالَ)، ومسرحيّةِ عادل إمام (الواد سيّد الشّغّال)، ناهيكَ عَنِ الأهلي والزّمالك"!!

فقلتُ لَهُ: "واللّهِ أنا حزينٌ عليكَ، أيّها النّهرُ الخالدُ". فردّ قائلًا: "حَتّى مقالاتكَ المؤثّرة الّتي كتبتَها دِفاعًا عني، وتمجيدًا لعظمتي، لم يقدّروها، ولم يُعطوها ما تستحقُّ من اهتمامٍ". فقلتُ: "لكنّ الأهرامَ نشرَ مقتطفاتٍ منها". فقالَ مُحتَجًّا: "ولماذَا لم ينشروها كلّها، وينشغلونَ عنّي بالسّخافاتِ، وأخبارِ الرّاقصاتِ. أنسِى المصريّونَ أنّني أساسُ البيئةِ، وأصلُ التّنميةِ، وينبوعُ الحياةِ؟ أرجوك دعني أهربْ من هؤلاءِ القومِ"!!

فقلتُ لَهُ: "هوّنْ عَلى نفسِكَ، أيّها النّهرُ العظيمُ، فسوفَ نجدُ حلًّا يُرضيك، إن شاءَ اللّهُ. أنا متفهّمٌ لأحاسيسِكَ، ومتضامنٌ مع مشاعرِكَ. أمّا المصريّونَ، فواللّهِ لا أعرفُ ماذا أقولُ فيهم، وماذا أفعلُ معهم. فهم فعًلا لا يسألونَ عنّك، ولا يُقدّرونَ قيمتَكَ، ولا يعرفونَ قدرَكَ، ولا يكتبونَ عنكَ، إلّا مرّة كلَّ مئةِ عامٍ. أمّا عن سرّ عدمِ نشرِ مقالاتي كاملةً في الأهرامِ الدّوليّ من قبلُ، فمن المرجّحِ أن سببَ هذا يعودُ إلى النّقدِ الّذي كنتُ أوجّهُهُ إلى نظامِ المخلوعِ، وهو ما جعلَهم يحظرونَ نشرَ أيِّ مقالاتٍ لي في وسائلِ الإعلامِ القوميّةِ في عصرِ المخلوعِ".

فَقَالَ النِّيلُ العظيمُ: "أنا فقدتُّ الأملَ في الإعلامِ، وفي المصريّينَ جميعًا. أريدُ الفرارَ الآنَ والهربَ، كما فررتَ أنتَ وهربتَ منْ هؤلاءِ النّاسِ الّذينَ لا يُقدّرونَ عظيمًا، ولا يشكرونَ النّعمةَ، ولا يعرفونَ النّظامَ. إنّهمْ باختصارٍ شعبٌ آخرُ غيرُ القدماءِ المصريّينَ الّذينَ كنتُ سَعيدًا بينهم، وكانوا يُكثرونَ من تكريمي، والاحتفاءِ بي. أمّا أهلُ مصرَ اليومَ، فَرَبُّنَا يسامِحُهم عَلى أعمالِهم".

كَانَتْ كلماتُ النّيلِ تُقَطِّرُ حسرةً، واستياءً، وتعبّرُ عنْ غضبٍ واستنكارٍ. فقلتُ لَهُ: "لَنْ أستطيعَ أنْ أحصلَ لكَ عَلَى تأشيرةِ دخولٍ لسويسرا؟" فقالَ بكلّ ثقةٍ واعتدادٍ: "ولماذَا لا؟ أنا النّيلُ العظيمُ. أنا فخرٌ لأيِّ دولةٍ أنسابُ فيها وأجري في أراضِيها". فتداركتُ الأمرَ قَائلًا: "أنتَ في الواقعِ محقٌّ. لكنْ قُلْ لي، يا سيّدَ أنهارِ الدّنيا، وعظيمَ أنّهارِ الآخرةِ، أنتَ أطولُ من سُويسرا، فكيفَ سنحلُّ هَذِهِ المشكلةَ؟" فردّ مسرعًا: "أنا لن آتيكَ إلّا بالجزءِ الّذي يمرّ بمصرَ. أمّا بقيتي الأخرى في أفريقيا، فسوفَ أتركها هُناكَ، لأنّ الأفريقيّينَ لا يكتمونَ أنفاسي، ولا يلقونَ بالسّمومِ في أَمْعائى، كما يفعلُ أهلُ مِصْرَ الآنَ"!

فقلتُ لَهُ: "نعمْ. أَعتقدُ أَنَّ هَذَا أَفضلُ. وَأُوافِقُكَ أَنَّ السّويسريّينَ سيُرحّبونَ بهذِهِ الفكرةِ جِدًّا. وَسَتَرَى فَارِقَ المعاملَةِ بينَ المصريّينَ والسّويسريّينَ، وَسترى المصريّينَ يبكونَ عليكَ، بَعْدَ أنْ تتركَهم وتفارقَهم وتهجرَهُم، كعادتِهم. فَهُم يُطفّشونَ العبادَ، ثمّ يبكونَ عَليهم. عاداتٌ غريبةٌ وتقاليدُ عَجيبةٌ. لكنّي أحتاجُ إلى بعضِ الوقتِ، لأرتّبَ لكَ الحصولَ عَلى التّأشيرةِ، ولأتحدّثَ معَ المسؤولينَ السّويسريّينَ. فأنا واللّهِ محتارٌ الآنَ، إلى مَنْ أتحدّثُ في أمرِكَ: أَإِلَى وزيرةِ خارجيّةِ سويسرا، لتمنحَكَ حقَّ اللّجوءِ السّياسيِّ، أمْ وزيرةِ داخليَّتِهَا، لتعطيكَ حقَّ اللّجوءِ البيئيِّ، أمْ وزيرِ مواصلاتِهَا، ليصدرَ لكَ تصريحَ الانسيابِ في الأراضي السّويسريّةِ. عَلى كُلّ حالٍ دَعنا نلتقِ مساءَ الغدِ، لنواصلَ حديثَنا هَذَا".

وَدَّعني النّيلُ الحزينُ قائلًا: "إذا جئتُ إِلَى سويسرا، فيكفيني أنْ أكونَ بجوارِك. فأنا لا أتطلّعُ أن يكرّمني السّويسريّونَ كَمَا كَانَ المصريّونَ القدماءُ يكرّمونني، ولكنّهم في جميعِ الأحوالِ لن يأذوني، ولن يلقوا بالسّمومِ في خَياشيمي، وأحشَائِي، وَهَذَا شَيْءٌ يردُّ الرُّوحَ. وَهُوَ تمامًا مَا أحتاجُهُ الآنَ، يَا أبا عُمَرَ. فَإِلَى اللِّقَاءِ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللّهُ".


[1]المصريون القدماء كانوا يقدسون النيل وحابي إله الفيضان أو الخصوبة ـ كما يزعمون ـ ، أما عروس النيل فكانت أسطورة لم تثبت واقعا لدى بعض لأن الديانات الفرعونية لم تكن تقدم قرابين بشرية وإنما كعروس خشبية، وذكرها آخرون كعادة مصرية لتقديم هدية إلى النيل لوفائه بالفيضان



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023