– دقيقة.. دقيقة! أنتم تقتلون الأطفال في غزة!
– نحن سند لمصر ومصر سند لنا!
– كلهم خانوا مبادئهم أمام سوريا!
– العالم الذي لا يتحرك لإغاثة الصومال ليس جديرا بالحديث عن السلام أو العدالة!
(1)
في 17 نوفمبر 2012م، وأثناء محاضرتها في معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، قالت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة ما يلي:
"ثمة أشياء غير مقبولة… كل قائد ودولة في المنطقة يجب أن يقرروا: إما أن يكونوا جزءا من معسكر الإرهاب والتطرف، أو معسكر البراجماتية والاعتدال، وإذا قرر قائد دولة ما مسارًا آخر فسيكون هناك ثمن لهذا… أعلم أنه حين أتحدث عن تركيا، أو عن أردوغان، أو عن الحزب الذي يحتفل الآن بمرور عشر سنوات على نشأته، أن الأمر ليس فقط حول المصالح، أنا مدركة أن الأمر يتعلق أيضا بالأيديولوجية، ولا أريد أن أقلل من أهمية الأيديولوجية، وأعلم أنها جزء من سياسة الحكومة في تركيا، لكنني أؤمن أن آخر شيء يجب فعله هو أن نقول: هذه أيديولوجية، ولا نستطيع أن ننتصر فيها، [حينئذ] نخسر تركيا، تركيا تتطرف أكثر… أؤمن أنه في النهاية عندما يتعلق الأمر بالقادة، فإنه يجب عليهم أن يختاروا ما هو أفضل لدولهم، وليس فقط أيديولوجية أحزابهم، وحيث أن تركيا في موقف حساس تماما، وحيث أنها تواجه مخاطر مختلفة في المنطقة طبقا لفهمهم، أؤمن أننا نستطيع مع الولايات المتحدة ومع المجتمع الدولي المصالح التي يمكن أن تخلق، ربما ليس نفس العلاقة، لكن علاقات بين إسرائيل وتركيا، مبنية على مصالح، وليس على أيديولوجية حزب لا نستطيع أن نشاركها للأسف، أعلم أن هناك في إسرائيل من ينظرون إلى خارجها بخوف وقلق، يظنون أن العالم يتغير وأنه لا يوجد ما يستطيعون فعله بخصوص هذا التغيير، وصحيح أن العالم يتغير وأن المنطقة تتغير، وصحيح أيضا أنه لدينا متطرفين أكثر في المنطقة، وقادة يريدون أن يختاروا مسارهم وطريقهم، لدينا في مصر مرسي الذي يمثل الإخوان المسلمين، وملك الأردن يواجه مشاكله أيضا، إيران تستمر في محاولاتها لإنجاز قنبلة نووية، لكن لا يمكنني أن أقبل فكرة أنه لا يوجد شيء نفعله حيال هذه التغيرات، لا أستطيع قبول فكرة أن تقول إسرائيل: "حسنا، العالم ضدنا، أردوغان إسلامي، ولا أمل في أي تغيير، وأنه يجب أن نتكاتف سويا، وأن نتحد ضد هؤلاء الذين يعادوننا، وألا نفعل شيئا"، أعتقد أن هذه فكرة خاطئة، وأعتقد أن هذه ليست السياسة المناسبة لدولة إسرائيل، مسؤولية أي حكومة إسرائيلية هي العثور على طريقة إعادة تعريف المصالح والعمل المشترك مع الدول الأخرى، من الممكن أن تكون هذه الطريقة علنية أو غير علنية، إذا لم يكن هذا ملائم لبعض قادة المنطقة، لكن هذه مسؤوليتنا، لأن عزلتنا أثناء التغيير الحادث في المنطقة هو أمر لا نستطيعه، إننا لا نستطيع أن نشكل مستقبل المنطقة، لكننا نستطيع أن نؤثر على العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة بما فيها تركيا".
لا يحتاج المرء لبذل جهد في فهم الكلمات ومنحنى السياسة القادمة: المنطقة تتغير، ظهر بعض القادة الذين لهم أيديولوجيا مختلفة وطموحات مختلفة وسياسات مختلفة مثل مرسي وأردوغان، لن نستطيع التعامل مع مثل هؤلاء سياسيا، ولن نقف مكتوفي الأيدي، لا سيما ونحن نستطيع أن نؤثر في تشكيل المنطقة.
إنها أقرب ما تكون لإعلان حرب على ثورات الربيع العربي ونتائجها.
(2)
مع بداية يونيو حدث ما لم يكن متوقعا، فجأة انفجرت مظاهرات في عدد كبير من المدن التركية، السبب المعلن هو الاعتراض على نقل اثنتي عشرة شجرة من حديقة لغرض إعادة بناء قلعة عثمانية أثرية كان أتاتورك قد هدمها، والاعتراض على حظر بيع الخمور في أوقات الليل المتأخرة، والاعتراض على تقليل المدة المسموح فيها بالإجهاض من عشرين أسبوعا بعد الحمل إلى عشرة أسابيع!
وفي حين يتعجب المرء كثيرا من أسباب كهذه تفجر تظاهرات تخريبية واسعة في عدد من المدن التركية، فإن العجب يتضاعف حين تكون اللافتات والهتافات في وادٍ آخر؛ إذ تحدثت الشعارات عن الطبقية والرأسمالية وأردوغان الديكتاتور ونداءات تناشد الجيش بالتدخل (انقلاب عسكري)!
وقد اجتمع في ساحة تقسيم كل المتنافرين: الشيعة مع الأكراد مع القوميين مع الشيوعيين، أولئك الذين تنافروا في كل موطن وجمعهم موطن معاداة أردوغان!
وليست إلا ساعات ووجدنا القنوات الفضائية الكبرى والصحف العالمية تصف هذه الاحتجاجات بالثورة، وأن الربيع العربي قد زحف إلى تركيا، وبأنه يبدو وكأنها الأيام الأخيرة لأردوغان، وحديث طويل كثير عن أن الأتراك يرفضون أي إعادة لبعث العثمانيين من جديد!!
ولا تسأل عن حيادية ولا مهنية ولا موضوعية، لقد تبخر كل هذا عند أحداث تركيا، وصارت الصحف والقنوات الأمريكية والأوروبية (خصوصا: البريطانية والفرنسية والألمانية) والإسرائيلية تعزف نغمة واحدة: ضد أردوغان؛ ففي أمريكا قالت الفورين بوليسي: "الأتراك يقاتلون لاستعادة تركيا" وقالت الواشنطن بوست: "أردوغان دليل على أنه يمكن للمُنتخَب أن يكون مستبدا"، وفي بريطانيا قالت الجارديان "المظاهرات القائمة هي إنذار وشكوى من المظالم المتراكمة لحكومة أردوغان"، وفي إسرائيل وصل الأمر لتصريحات مسؤولين رسميين مثل موشيه فايغلين رئيس الكنيست الذي قال "إننا نصلي من أجل أن تتواصل المظاهرات في تركيا حتى يسقط أردوغان"، ومثله ليبرمان وقد أعلن "لا أستطيع أن أخفي سعادتي بما يحدث"، ومثله سيلفان شالوم الذي قال "إسرائيل ترحب بأي تطور يخلصها من العثمانيين الجدد".
(3)
لا ريب أن الحكومة التركية تفاجأت بما حدث، كما تفاجأ الجميع، ومن ذا الذي يتوقع ثورة لهدم اثنتي عشرة شجرة أو زيادة ساعات بيع الخمر أو تقليل مدة السماح بالإجهاض!
ولا ريب أن قدوم شخصيات من خارج تركيا لتشارك في اعتصامات تقسيم، كما روى مراسلون صحفيون، يثير الشك على أن الأمر ليس مجرد شأن تركي خاص، كما لا ريب في أن التغطية الإعلامية الموسعة والحافلة بالتشفي والمُلِحَّة على أن الأمر صراع هوية وأنه "نوع من الحروب الثقافية" –والتعبير للمحلل الأمريكي المعروف فريد زكريا- تجعل الأمر أكبر من احتجاجات على قرارات إدارية، كذلك فإن توعد الحركة الاحتجاجية بثورة في يوم 15/9 (التي توافق بداية العام الدراسي) لا يجعل الأمر مجرد فورة وقتية بل جزءا من تدبير غير انفعالي أو بريء.
قالت الحكومة التركية أنها اكتشفت كثيرا من خيوط المؤامرة، وتتردد أنباء عن مشاركة بعض القيادات العسكرية في خطة انقلاب عسكري على أردوغان، وأن بعضا منهم مسجون بالفعل، ومن المُلاحَظ زيادة الحدة في لهجة أردوغان من بعد لقائه الأخير بالرئيس الأمريكي أوباما أوائل أغسطس الماضي، ولو غضضنا النظر عن الجانب الأخلاقي في الموقف التركي من الانقلاب العسكري في مصر لشككنا في أن أردوغان يدافع عن نفسه من مصير مماثل، ولو أننا تركنا الظنون فإنه يكفينا ما نعرفه من اليقين، واليقين أن من يخرج عن المسار الأمريكي معرض للخطر: انقلابا أو اغتيالا أو حربا.
(4)
فيما بين نوفمبر الماضي وهذه اللحظة لم تقض إسرائيل –التي عبرت عنها تسيبي ليفني- وقتها في المشاهدة والرصد فحسب، بل لقد كان الانقلاب العسكري على مرسي واحدا من آثار التحركات المحمومة التي لا تزال محمومة للحفاظ على بقاء الانقلاب أمام الرفض الشعبي الواسع وغير المتوقع.
فإلى أي حد سارت خطة إزاحة أردوغان؟
وهل ما زال الجيش التركي قادرا على قيادة انقلاب عسكري، أم أن الاغتيال سيكون أسهل وأفضل؟
أم أن الرجل الذي شق حياته من بائع خبز حتى صار زعيما إسلاميا تتعلق به القلوب جميعا لديه من اليقظة والكفاءة والتوثب ما سيمكنه من ضرب مخططات إزالته ليظل حلم العثمانيين الجدد قائما؟