كان أبى يدعو الله أن يموت في لقاء من لقاءات الدعوة و قد استجاب الله له وعليه فقد تركني ورحل وأنا في السادسة من عمري وقلبي معلق بكل ما كان يحبه في الحياة.
أنا ابنة أبى الذي لم يبقى في عالمي إلا ست سنوات فقط وكم تمنيت أن يكون موجودا معي في ذلك اليوم الذي ما احتجت إلى الحماية في عمري كما احتجت إليها فيه.
في ذلك النهار كانت شمس اسطنبول جميلة وهادئة و كنت قد انتهيت من محاضراتي في الجامعة وكنت على موعد مع مسؤولتى ولقاء مع أخواتي فيه.
بيت مسؤولتى يطل على مسجد (الخرقة الشريفة) أحد أجمل وأقدم المساجد في تركيا ويقال أن سبب التسمية وجود شيء من ثياب النبي فيه .
كان الحوار يدور بيننا عن الأحداث الجارية والتي لا تبعد عن منزلي أكثر من نصف ساعة في ميدان تقسيم.
قالت لنا المعلمة : هذه ليست ثورة إنما هي حركة مرتزقة من اليساريين وستنتهي كتلك الزوبعة في فناجين قهوتكن.
تصاعدت أبخرة القهوة العثمانية الطازجة التي ضايفتنا بها مع الحلوى ليعبق الجو من حولنا بسحرها مع كلمات معلمتي الواثقة والقوية وهى تقول : دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.
بقينا نقول الأذكار وورد الرابطة في شرفة بيتها المطلة على مآذن المسجد الجميل وتعالت أصوات آذان المغرب بصوت شيخ عجمي صالح يتغنى بالآذان جميلا باهرا ليختتم جلستي معهم ونودع المعلمة رغم أنها أصرت علينا أن نبيت معها ولا نسير ليلا في هذه الأجواء المتأزمة في الشارع.
لكننا شكرنا عرضها الكريم لأن كل منا لديها شواغل مهمة تمنعها من أي إجازة مهما كانت إجبارية.
من واقع إقامتي في تلك البلد أرى إسطنبول خلية نحل دءوبة لا تصمت ولا تكل ليل نهار.
بقيت أنا واثنتين من رفيقاتي نسير في الشارع وقد غابت الشمس تماما .. كان طريقهن واحد فودعاني على بعد شارعين من بيتي .. وسرت في الشارع على يميني مستشفى اسطنبول الجامعي العريق وبعض البيوت الأهلية لحى الـ فاتح فيبدوا لي التاريخ الذي أحمله في الكتب على ظهري جليا في ذلك المشهد وعلى يساري كان شارعا عامرا بالبنايات الحديثة والمحال التي تبيع الماركات العالمية, كنت في المنتصف لكأنى أراقب ما حققته تركيا في العشر أعوام المنصرمة .يسير جنبا إلى جنب مع تاريخها العثماني الذي أدرسه بشغف.
ما أرعبني وأثار هواجسي أن كل المحال كانت مغلقة والشارع كالتلة صاعد لأعلى وطويل ويبدو في عيني لا منتهى له.
أخذت أسير بخطى بطيئة وأنظر لحذائي الرياضي الجديد الذي كنت أنتعله وأتشاجر معه لماذا لا تسرع أكثر أريد أن أغمض عيني وأفتحها لأجد أنى وصلت.
تلك الدقائق تمنيت فيها أن أكون في مصر حيث اللغة المشتركة والعاطفة المشتركة لكنني كنت في موعد مع الإعصار.
تذكرت وجه صديقة تركية كنت في زيارتها أمس وكانت تحكى بتخاذل عن أربعة رجال أوقفوها في الشارع وحاولوا خلع حجابها عنها لولا أن أرسل الله لها عجوزا تركيا سحبها من بينهم ومنعهم عنها !
عند تلك النقطة من أفكاري سمعت ضجيجا عاليا وكأنه كابوس يقترب وخرج من أحد الأزقة مجموعة شباب وفتيات أعمارهن بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين يحملون أدوات معدنية يطرقون عليها ورفعت رأسي للبيوت فوجدت الشرفات ممتلئة بالأشخاص الذين ينظرون نحوى بعدائية ويقرعون على الأدوات المنزلية ليثيرون نشازا لا مثله.
الفكرة الأشد جنونا و الوحيدة التي سيطرت على عقلي وقتها أنني لن أهرب.
لن أتراجع للخلف, لهذا توقفت فقط .. صمت كل شيء من حولي حتى ضجيجهم أوقفوه وأحاطوني في شكل دائرة ظهري لحائط المستشفى وعيونهم تقطر سوادا لا أفهمه.
لغة الكراهية واحدة في كل الدنيا لكن لغتهم كانت الأشد عنصرية ووحشية وجنونا وظلما على الإطلاق.
خرج لي من بينهم شاب يبدو في مثل عمري وأشار نحوي بيده وقال: أنتٍ سورية ..؟!
رددت: لا !
فرد الشاب: كاذبة عودي لبلدك أنت عار علينا بما ترتدينه هذا !! هل تظنين نفسك ذاهبة للسوق بهذا الزى !! لماذا لا تذهبين للجحيم ؟!!
ورد آخر حجابك هذا سيأتي اليوم الذي ننتصر فيه ونتحرر ونحرقه من على رأسك.
وتفحصت أشكالهم فبدا لي أنهم يشبهون عبدت الشيطان الذين تم اعتقال تنظيمهم في مصر منذ سنوات البنات ترتدين الجينز ويلون شعرهن أصباغ زرقاء وحمراء ويوجد حلى تزين ثقوب في أنوفهن, كانت الصورة نشاز لو كنت أمتلك القدرة على تمزيق تلك الصورة أو محوها لفعلت لكنني في تلك اللحظة وجدتني أتمتم بالشهادة ووجدت في عيونهن نية لسفك دمى .
وفى لحظة صليت للمعجزة .. من يصلى للمعجزة ولا يراها ؟؟ أمن يجيب المضطر إذا دعاه.
وجاءت المعجزة وهم يهجمون على بعصيهم ولا ملجأ !! وفجأة رأيته يخترق الصفوف وتصلني كلماته يسبهم بلغة أعرفها جيداً.
ووجدته أمامي يحمل عصا غليظة ..أنه جارى الذي يمتلك محلا كبيرا في نفس منطقة سكنى واعتدت أن ألقى عليه السلام في طريقي للجامعة وكان يخبرني أنه فخور بأني عربية جاءت من بلادها لتدرس تاريخ العثمانيين الذي يعتز به.
كثيرا ما أخبرني أنه فخور بى.. وكان الشخص المناسب ليدفع عنى ذلك الشر المستطير الذي أحاط بي.
كان هذا الجار هو ورد الرابطة الذي قرأته وأذكار المساء والمعوذتين . كان أبى عائداً للحياة فقط ليصفع الأوغاد وينتشلني من الخطر .. رغم أن هذا الجار شابا يافعا إلا أنه في ذلك اليوم بدا لي شيخا غاضبا.
سحبني الشاب من كتفي وركض بى من بينهم وأدخلني محله وأغلق الباب علىّ.
وبقى يدفعهم ويسبهم ووصلني صوته وهو يقول عار عليكم أنتم جهلة هي ليست سورية ولا عالة على بلادكم هذه طالبة علم أتت لبلادكم لأنها تعرف قيمتها وتريد أن تقدم لها المزيد ..أنتم العالة علينا لا هي.
وسمعت كلماته في حقي مع صوت آلاتهم النحاسية التي يضربون عليها وسبابهم له.. وضعت يدي على رأسي.. لا أطيق تلك الضجة.. رأسي يوشك على الانفجار وللحظة قررت أن أنفصل عن كل ما يحدث .
تذكرت أستاذي في المرحلة الابتدائية وهو يخبرني أنني لو أردت أن أسحب تركيزي من العالم وأضعه بداخلي فعلىّ أن أغطى أذني وأحرك جسدي للأمام والخلف حتى أعي كل حرف أحفظه من كتاب الله .. حضرتني كلماته فغطيت أذني وجلست على الأرض أحرك جزعي أمام وخلفا حتى تلاشى الصوت الشرير من حولي..وأفقت على صوت طرقات على الأرض فرفعت رأسي ووجدت التاجر الشجاع الذي أنقذني في حالة تحفز يجلس أمامي و يطرق بعصاه على الأرض ويلهث كأنه خرج من قتال عنيف.
لم أتخيل أنى بقيت على الأرض مغلقة أذني وعيني لساعتين .. لم أتخيل حجم المهزلة إلا عندما سألته كم الساعة فقال أنها الحادية عشر !! رددت مفزوعة يجب أن أعود لبيتي .. قال لي اطمئني و وعدني بأن يوصلني إلى البيت.
وخرجت من محله لأرى على الأرض بقايا أدواتهم المعدنية وكأنها ساحة معركة.. سرت صامتة خلفه ولم نتبادل حرفا حتى وصلت لبيتي دخلت ونمت بملابسي حتى الصباح ، وأول صوت طرق وعيي كان مؤذن الفجر .. صليت العشاء والفجر .
تذكرت أن اليوم أول يوم لنشاط الزهرات الصيفي في المسجد و الذي تعبت في التحضير له مع رفيقاتي لأيام.
كانت رغبتين تتصارعان بداخلي, رغبة في الذهاب للنشاط الصيفي وإكمال ما أؤمن به .. وخوف شديد من تكرار التجربة التي بدت ضبابية في عقلي ذلك الفجر.
انتظرت حتى أشرقت الشمس وبداخلي رغبة قوية في رؤية أستاذي في الجامعة والمشرف على رسالتي .. ذلك المعلم الذي أظنه في خاطري يعرف كل شيء ويمثل كل ما أحب في الحياة. !! سرت بخطى متعثرة حتى وصلت جامعتي وصدمني أنها مغلقة, لقد فقدت إحساسي بالوقت.
جلست في حديقة بجوار أسوارها المرتفعة, ومر بائع الشاي فشربت كوبا نشط عقلي, واتصلت بأستاذي رد على وهو نائم وكان اتصالي مفزعا له وكان صوته كفيلا بانهيار سد ذاكرتي عن تلك الحادثة فبكيت في الهاتف ولم يميز من كلماتي إلا أنني عند سور الجامعة.
خمسة عشر دقيقة أو أقل وكان أستاذي الصالح أمامي يرى حالتي المزرية ودموعي و وثيابي التي لم أبدلها منذ أمس.
وجهه كان غاضبا جدا وجعل يسبهم ومع شدة غضبه هدأ غضبى ومع وجوده تبدل إحساسي من الخوف إلى الأمن ومن الهلع إلى الهدوء..أخذني لمكتبه وأستمع لي ثم تحدث.
فيض من النور يطرق قلبي وعقلي عندما يتحدث أهل العلم.
قال لي أستاذي العزيز : سأحكى لك يا فاطمة عن أول مرة رأيت أبى فيها يبكى .
كان أبى شيخ عامود يعلم القرءان في ركن من المسجد ..له طلابه ومريديه كان عالما يحفظ القرآن ويعيش حياة عامرة بالعلم والعمل.
في ذلك اليوم عاد باكيا وكنت وقتها طفلاً صغيراً فلما رأيته يبكى لم أسأله إلا سؤالا واحدا.
أين عمامتك يا أبى !!! لم أره بدونها قط وكان عائدا ذلك اليوم منكس الرأس حاسرها.
قال لي : أخذ عسكر أتاتورك عمامة أباك يا ولدى هجموا علينا في المسجد وجمعوا عمامتنا وأنذرونا بالاعتقال والتعذيب إن عدنا لارتدائها وأمرنا أن نلبس البنطال والقبعة عوضا عن هذا اللباس وأن نمنع نسائنا من الحجاب وأن يمنع تحفيظ القرآن وأي مظهر أو فعل ديني في الشارع.
قال لي أستاذي : هذا اليوم يا فاطمة كان آخر يوم خرجت فيه أمي من البيت بقيت أمي في البيت طيلة حياتها بسبب هذا وكانت جدتي توقظنا في الثانية عشر ليلا حتى تحفظنا الفاتحة .. نحن مررنا بالكثير مع آل علمان يا صغيرتي لكن تركيا في العشرة أعوام الأخيرة شهدت ثورة تصحيح .. ونحن وأنتِ سنكملها بالعلم والعمل.
أنت يا صغيرتي شريط أحمر.
سألته ماذا يعنى ! قال هل تعرفين الثور عندما يظهر أمامه مقاتل الثيران بالشريط الأحمر حتى يعمى عينيه فيركض مستهدفا إياه بجنون لا يمتلكون معه قوة متزنة تجعلهم ينجحون .. أنتِ الشريط الأحمر الذي يستهدفونه لكنك أيضا المقاتل الذي سينتصر بعقله وعلمه على جنونهم.
وقام معلمي العظيم وأحنى رأسه واضعا يده على صدره وقال : أنا آسف .. آسف لما مررت به .. آسف لأن في العالم أوغادا مثلهم .. أنا آسف لك يا طالبتي فأقبلي أسفى ولا تنسحبي فهذه معركتنا جميعا.
كانت كلمات أستاذي بردا وسلاما.. وأسفه وانحنائه لم تزد هامته سوى ارتفاعا عانق الشمس, هكذا المعلم .. لقد حررني من الألم ومن الخجل الذي إنتابنى للحظة بسبب حفنة من الأوغاد البائسين.
وكنت في اليوم التالي على متن الطائرة عائدة في إجازة قصيرة لأرى أمي وأعانق وطني الذي لأول مرة منذ مدة أحن حنينا كبيرا لمعانقة ترابه ..
وطني مصر البلد التي أرفع رأسي فيها وأمتلك حريتي كاملة لأعتنق عقيدتي ولا يجرؤ فرد آخر أن ينزع مني هذا الحق.
أما عن وطني الثاني تركيا فسأبذل جهدي ليكون كما أحلم به حراً بلا عنصرية.. وإن كان الله خلق البشر أحرارا فقد أعطاهم أيضا حق البحث عن الحقيقة وحق الدفاع عن ما يعتنقونه من أفكار.
لم تزدني عنصريتهم إلا إيماناً, ويبقى في القلب حزن على كل من صفعته العنصرية بأي شكل في حياته .. وعلى هؤلاء الذين يخضعون لمثل هذا البلاء أن يثبتوا فالنور بانتظارهم في نهاية ذلك النفق المظلم.