أحمد يوسف – باحث مصري- تركيا
لم يكن من المتوقع أن تعيش دولة كتركيا ما تمر به الآن من أحداث على الأقل في المرحلة الحالية؛ خصوصاً أنها قطعت مسافة لا بأس بها في التحول الديمقراطي طوال ما يقرب من أحدى عشر عاماً من حكومة العدالة والتنمية وما قبلها من مراحل لا يمكن إنكارها؛ الاهتمام العالمي والمحلي بالأزمة التركية الحالية يعكس تزايد أهمية تركيا في المنطقة؛ لكن تصوير ما يقع الآن في تركيا على أنه انتفاضة أو ثورة أو "ربيعاً تركيا" يحتاج إلى إعادة نظر في تقييم الأحداث والواقع.
ما يعكسه الشارع التركي الآن من مظاهرات يمكننا وصفه بأنه تفريغ شحنات الكبت المتدفق لدى المعارضة التركية على الأخص "اليسارية" منها والتي تكمن العداء لحزب العدالة والتنمية ليست فقط كونها معارضة لإجراءات حكومة صاحبة نجاح أو فشل بل معارضة أيدلوجية على خلفية الحزب الإسلامية المعروفة.
لقد خرجت القضية من كونها "تظاهرة صغيرة" معتادة تحدث شبه يومياً في ميادين أنقرة واستانبول اعتراضاً على إجراء لبلدية أو دفاعاً عن حقوق الفن والمسرح أو حقوق العمال أو أي تظاهرات على أي من سياسات الحكومة الغير مرضي عنها من ذلك القطاع.
ما أجج الوضع هو تعامل الشرطة المختلف هذه المرة مع المتظاهرين الذي شابه العنف والضرب؛ ومن ثم كان هذا الحادث هو الفرصة المبتغاة من المعارضة اليسارية واستغلالها لتحريك الشارع.
لقد ساعد القدر المعارضة أن يكون الحادث في إحدى أشهر ميادين استانبول وهو ميدان "التقسيم" على وزن ميدان "التحرير" ليكن التحرك بعد ذلك تيمناً بالربيع العربي بأنه ربيع تركي؛ والمظاهرات التي خرجت في المدن الأخرى خرجت وكأنها دعم لــ "ثوار تقسيم". المدقق في القطاعات المشتركة في تأجيج المظاهرات واستمرارها حتى اليوم يدرك جيداً أن هذه المظاهرات ليست بثورة شعبية بل هي تفريغ لغضب من قبل جزء من المعارضة التي تتكون من مجموعات علمانية ويسارية متطرفة الأيديولوجية.
استمرار الأحداث حتى الآن صاحبها حوادث عنف وتكسير وتخريب أفقد المتظاهرين دعم غالبية الشارع التركي بل يمكننا القول بان الشارع التي الآن يقف تماماً ضد ما يحدث.
من يقُم على هذه المظاهرات يدرك جيداً انه لن يستطيع أن يتسبب في إسقاط الحكومة أو جلب العسكر من الجديد نحو الشارع وتكرار أزمات 1980 و1997 من تدخل العسكر لإقالة الحكومات المنتخبة بناءاً على طلب القطاع العلماني الذي وقف دائماً مع العسكر في إجهاض حقوق الشعب والديمقراطية.
لكنه يحاول حالياً من خلال مد الأحداث إلى أطول وقت على قدر الإمكان؛ لأنه يريد أن يفرض واقعاً جديد للمعارضة تجاه السلطة الحالية وإعادة هيبته التي يفقدها يوماً بعد يوم بالطرق الديمقراطية وفشله المستمر في صندوق الانتخابات مع تزايد شعبية العدالة والتنمية وهذا ما يظهره الواقع.
فكما وضحت, المعارضة التركية كانت ننتظر الحدث الذي تستغله لإشعال فتيل الحراك لإيجاد واقع جديد من الخروج للشارع وهز صورة السلطة لدي الشعب وتأليب العالم الخارجي على الحكومة من خلال الإعلام؛ حتى أنه بعد ساعات من الأحداث بدأت تسير في منحاً أخر وبدأت تتكلم عن ديكتاتورية الحزب الحاكم وأردوغان وخرجت القضية من مسألة حماية البيئة إلى مطالب استقالة الحكومة التي استهدفت تمهيد لما يمكن أن يتخذوه حجة لما يريدوا القيام به من محاولات تمديد الأحداث واستغلالها بشكل معارضي قوي.
من النقاط التي تدعونا إلى الوقوف على هذا الحادث بشكل مختلف هي أن الذين أعلنوا ما أدعوه بــ "الربيع التركي" هم أول من عارضوا الثورات في الدول العربية "الربيع العربي" بتونس ومصر واليمن وليبيا وصورها بأنها ربيع أمريكي- إسرائيلي وخطة جديدة للسيطرة على الدول العربية واستكمالاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد؛ وهم إلى الآن يدعموا بشار الأسد في سوريا حتى أن منظماتهم تقوم بمظاهرات دعم الشرعية في سوريا وهي حسب رؤيتهم بشار الأسد؛ متمثلةً في حزب الشعب الجمهوري العلماني الذي أرسل وفداً رسمياً من حزبه لمقابلة بشار الأسد وإعلان دعمه له ضد المؤامرات الدولية.
السياسات التغيرية المتزايدة التي تقوم بها حكومة العدالة والتنمية والتي تتجاوز الخطوط الحمراء في عُرف القطاع العلماني واليساري من محاولات تعديل الدستور؛ والنظر في قضايا الانقلابات العسكرية على الحكومات السابقة ومحاسبة العسكر ومحاكمة الكثير منهم حالياً؛ وكذلك محاولات الإصلاح والتغيير التي تجرى في مؤسسات الدولة وتقنين المشروبات الكحولية وغيرها من الإجراءات والتي تراها المعارضة فرض نفوز وديكتاتورية؛ التطور أيضا التي حققته الحكومة في القضية الكردية والنجاح الذي قادته كخطوة هامة في إحدى المشكلات العسيرة التي تواجه الدولة التركية في تاريخها الحديث وفقدان المعارضة مكسباً كبيراً كانت تتخذه كإحدى الأدوات القوية لمعارضة الحزب الحاكم؛ وان السياسات الداعمة للثورة السورية وعدم رضاء اللوبي العلوي في تركيا عن تلك السياسات أن له أيضا دور في دعمهم لتلك الأحداث والخروج إلى الشارع.
ما ذُكر لا ينفي ثقل الحدث وتأثيره سواء على السياسة الداخلية أو الخارجية لدى تركيا وخصوصاً إنها تمر بمرحلة حرجة جداً في تاريخها تزامناً مع تداخل الملفات والقضايا الداخلية والخارجية تجعل تركيا على المحك في أمنها الداخلي وفقدان الشارع صوابه الذي من الممكن أن يجر تركيا لحالة لا داعي لها في هذه الفترة في تاريخ المنطقة؛ والتي تقوم فيه تركيا بدور كبير الآن في القضية السورية والفلسطينية والملف الأفريقي؛ فأحداث الداخل التركي ستؤثر بلا شك في تخفيف الاهتمام بالقضايا الخارجية إذا استمرت الأزمات الداخلية.
تستمر المحاورات واللقاءات بين المعارضة والحكومة محاولة لتلطيف الأجواء والتخفيف من حدة وامتداد الأحداث؛ لكن الظاهر أن المعارضة تحاول الخروج بأكبر قدر من المكاسب لإحراج الحكومة التي تحظي بشعبية رهيبة في الداخل التركي. لا يُتوقع استمرار الأحداث لفترة طويلة غير أن تأثيرها على الداخل لن يكون سهلاً.
التغطية الإعلامية الخارجية لما يقع في تركيا بعد كثيراً على الحقيقة وإن لم يكن شط؛ فتصويرها بانتا انتفاضة ضد ديكتاتور ليست حقيقة بشكل نسبي؛ فخلفية تركيا الاجتماعية والسياسية لا تقول ذلك؛ أي معارضة مهما كبرت أو قلت ترى في السلطة ديكتاتور؛ وهذا هو الواقع التركي؛ فالقطاع السياسي المنتفض الآن يرى في أردوغان ديكتاتورا لما يأخذه من إجراءات من تقنين استخدام الخمر مثلا وشرب السجائر والإصلاحات في التعليم التي يرون فيها انقلاباً على المبادئ الكمالية في عُرفهم الحق المطلق؛ وهي فئة ليست كل الشعب التركي ولا تمثله وليست بالقليلة أيضاً.
لا شك أن الحادث بسلبياته وإيجابياته سيجعل الحكومة التركية تتخذ التدابير اللازمة للمرحلة المقبلة وتفادي الأخطاء على مستوى المؤسسات كي لا تُخلق الأزمات المفتعلة كرد فعل على أحداث بسيطة قد تؤدي إلى زعزعة الداخل واستقرار تركيا الذي يراهن عليه الحزب باستمراره في السلطة لفترة طويلة.