بدور “تنموي وخدمي”، تسعى الكيانات السياسية بمصر، من توجهات مختلفة، إلى لعب دور بارز في فضاء العمل العام؛ عوضًا عن فراغ سياسي فرضته ظروف أمنية متوترة، وإجراءات استثنائية بالبلاد.
وقبل 15 شهرًا، فُرضت حالة الطوارىء (إجراءات استثنائية تتخذها السلطة) على عموم مصر؛ إثر وقوع هجومين استهدفا آنذاك كنيستين شمالي البلاد، وأوقعا 45 قتيلًا على الأقل، وتبناهما تنظيم “داعش” الإرهابي.
وقالت الحكومة المصرية آنذاك، إن فرض حالة الطوارىء يأتي نظرًا لـ”الظروف الأمنية الخطيرة التي تمر بها البلاد”، حيث تم تمديدها للمرة الخامسة على التوالي منذ إبريل/نيسان 2017، لمدة 3 أشهر.
92 حزبًا سياسيًا
ووفق أكاديمي مصري متخصص في العلوم السياسية، تحدثت إليه الأناضول، فَرضت الإجراءات الاستثنائية على الحياة السياسية “قيودًا”، دفعت الأحزاب إلى خلق آليات للتواجد على الأرض في إطار ضوابط التأقلم مع السلطة.
فيما اعتبر أكاديمي مصري آخر، في حديث منفصل للأناضول، أن اجتهادات الأحزاب في هذا الشأن ليست سوى “ذر الرماد في العيون” بعد تدني أداء ممثلي الأحزاب في البرلمان، وعدم قدرتهم التعبير عن هموم المواطنين.
ومصر لديها 92 حزبًا سياسيًا تشكل معظمها عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، حيث أصدر المجلس العسكري (حكم البلاد من فبراير/شباط 2011- يونيو/حزيران 2012) مرسومًا بقانون يقضي بتشكيل الأحزاب بالإخطار بدلًا من التصريح.
وبدأ ظهور الأحزاب في مصر منذ مطلع القرن المنصرم إلى أن تم حل جميعها عقب ثورة يوليو/تموز 1952، وساد التنظيم السياسي الواحد (1953-1976)، ثم قيام نظام المنابر الحزبية (يمين ووسط ويسار) عام 1977، الذي بات فيما بعد النواة الأولى للتعددية الحزبية المقيدة في البلاد، حسب الهيئة العامة للاستعلامات (رسمية).
أعمال خيرية وتنموية
مؤخرًا، أعلنت عدة أحزاب سياسية بارزة بمصر – معارضة او مقربة من السلطة – بينها “الحزب المصري الاجتماعي” (يسار الوسط)، و”الدستور” (ليبرالي)، و”التحالف الشعبي الاشتراكي” (يساري)، عن القيام بأعمال خيرية وتنموية في عدة محافظات بالبلاد.
أبرز تلك الأعمال، تمثل في تنظيم قوافل طبية لعلاج أهالي القرى النائية (جنوبي مصر)، ورفع وعي سائقي مركبات الأجرة بجرائم التحرش، وتقديم إعانات مالية لغير القادرين، وتوفير ألبان صناعية لحديثي الولادة (كانت غير متوفرة في الأسواق) وغيرها.
وقالت بعض الأحزاب، في بيانات منفصلة، إن هذه الفعاليات تأتي ترسيخًا لإيمانها بالدور التنموي والخدمي، لتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان تحقيق تواجد حقيقي في جميع محافظات مصر البالغ عددها 27.
يأتي هذا إلى جانب دور لافت، يلعبه “ائتلاف دعم مصر” صاحب الأغلبية البرلمانية بمجلس النواب من الإعلان عن مثل هذه الأعمال الخيرية والتنموية.
استراتيجية التأقلم
معتبرًا هذا الاتجاه نوعًا من التأقلم وفق ضوابط السلطة، قال زياد عقل، خبير العلوم السياسية بمركز “الأهرام للدراسات الاستراتيجية” (مملوك للدولة)، إن المؤسسات السياسية تسعى لخلق آليات للتواجد والنفوذ.
وأوضح عقل في حديث للأناضول، أن “غياب العمليات السياسية (إجراء الانتخابات) يضعف من حجم الأنشطة التي يجب على الأحزاب القيام بها، لذلك عادة ما تلجأ للأعمال الخيرية والتنموية للتواجد وإيجاد نفوذ شعبي على الأرض”.
وأضاف، أن “تنامي حجم الرقابة على العمل العام، وتقليل هامش الممارسة السياسية، يدفع الأحزاب إلى خلق آليات جديدة وفق ضوابط التأقلم من النظام المصري”.
وأشار عقل إلى أن الأحزاب السياسية كانت تعوّل على إجراء انتخابات المجالس المحلية (متوقفة منذ 10 سنوات)، ليكون ذلك اختبارًا لحجم تأثيرها على الساحة السياسية، غير أن تأجيل الانتخابات غالبًا ما يدفع الأحزاب للبحث عن دور بديل في البلاد.
وعقب ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، حلت مصر المجالس المحلية، ومنذ ذلك لم تجر انتخابات محلية في البلاد، لأسباب بينها إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وانتظار إقرار قانون للانتخابات المحلية لم يصدر بعد.
تحديات الوضع القائم
وبقوله إن لـ”الوضع القائم تحديات على المديين المتوسط والبعيد”، اعتبر زياد عقل أن استراتيجية التأقلم التي تلجأ لها الكيانات السياسية غالبًا ما تلقي بظلالها على مستقبلها.
ولفت إلى أن تعقيد البنية السياسية بمصر سواء من ناحية التشريعات أو التحالفات أو هامش الحريات، يضاعف من صعوبة خلق آليات عمل للأحزاب السياسية؛ لا سيما المعارضة منها.
وارتأى أن هناك تحديًا إضافيًا يفرض نفسه على الوضع القائم للكيانات السياسية، ويتمثل في حجم التنسيق مع مؤسسات الدولة، لخلق هامش يسمح بالعمل والتواصل بين الأحزاب وقواعدها الشعبية على الأرض.
ومن المنتظر، أن تشهد مصر إجراء انتخابات نيابية (مجلس النواب) في عام 2020، عقب انتهاء دورة البرلمان الحالي (مدتها 5 سنوات)، التي بدأت منذ عام 2015.
محاولة لذر الرماد
بدوره، عزا المحلل المصري مختار غباشي، نائب رئيس المركز العربي للدراسات الاستراتيجية (غير حكومي مقره القاهرة)، أسباب لجوء الأحزاب للأدوار التنموية والخدمية إلى محاولتها التواصل مع القواعد الشعبية.
وقال غباشي للأناضول، أن “الأحزاب السياسية فشلت في التعبير عن هموم المواطنين في البرلمان، لذلك فإنها تحاول بهذه الأعمال ذر الرماد عن العيون (نثر الغبار الناعم في العيون)”.
وأضاف: “فشل ممثلو الأحزاب في التعبير عن نبض الشارع؛ لا سيما في ظل أزمة اقتصادية متشعبة التأثير على المواطنين، ما ساهم في انقطاع روابط الصلة بين الأحزاب وقواعدها الشعبية؛ إثر فقدان الثقة”.
وتابع غباشي مهاجمًا: “الأداء العام للأحزاب في مصر على الصعيدين السياسي والتنموي يتسم بالضعف؛ لا سيما وأن اجتهاداتها الخدمية لا تزال في طورها البدائي”.
وتوقع الأكاديمي السياسي، أن تزداد وتيرة لجوء الكيانات السياسية إلى الأعمال الخيرية لاستخدمها كأداة نافذة للتواصل مع المواطنين قبيل إجراء انتخابات المجالس المحلية.
وفي إبريل/نيسان الماضي، أعلن المتحدث باسم مجلس النواب المصري، صلاح حسب الله، أن بلاده ستجري أول انتخابات محليات منذ قرابة 10 سنوات في النصف الأول من عام 2019.
وتكرر مرارًا تأجيل موعد إجراء اقتراع المحليات بمصر (تجرى على مستوى المحافظات والأحياء والمراكز والمجالس القروية)، على خلفية توترات سياسية وأمنية شهدتها البلاد خلال الثماني سنوات الماضية.