قبل أربع سنوات، هاجم «تنظيم الدولة» موقعًا عسكريًا في «كامب سبيتشر» شمال «تكريت» بالعراق، وهو مخيّم موطن لآلاف من طلاب الكلية الجوية العراقية، كثير منهم شيعة؛ وقتل في الهجوم 1566 طالبًا، في منظر دموي ووحشي وقاسٍ، ثم تفاخر التنظيم على الإنترنت بالهجوم.
وفي 2016، قبضت القوات العراقية على المنفذين وأعدمتهم جميعًا؛ لكنّ الحادثة مثّلت نقطة تحوّل بعد «الربيع العربي» من الأحلام والأماني بشرق أوسط جديد يسوده العدل والديمقراطية إلى شرق أوسط تحوم فيه الطائفية والحروب ومشاهد الذبح.
واليوم، يجب على أميركا أن تدعم حلفاءها الإقليميين، بجانب كفاحها لاحتواء خطر التوسع الإيراني الطائفي، الذي ما لبث أن نشر الاضطرابات في منطقة مضطربة أصلًا؛ فلا يزال الربيع العربي، الذي بدأت بوادره في 2010 بعدما أشعل بائع تونسي متجول النار في نفسه احتجاجًا على صعوبة المعيشة، متأججًا.
هذا ما يراه المدير التنفيذي لمركز الشرق الأوسط للتقاير والتحليلات «سيث فرانتزمان» في تحليله بصحيفة «ذا هيل» الأميركية وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ الممالك الخليجية استطاعت تعزيز أوضاعها والنجاح في الهروب من تبعات «الربيع العربي»؛ بينما فشلت هذه الثورات في تغيير الأوضاع بلبنان وسوريا ومصر، التي عاد الحال فيها كما كان من قبل وأسوأ، بجانب تصاعد الهيمنة الإيرانية في المنطقة والتحالف المتنامي بين «إسرائيل» والدول العربية السني؛ وفي مقدّمتها السعودية.
وأكّدت أميركا أنها بجانب موجات التغيير منذ بدايتها؛ فطالبت حسني مبارك بالتنحي، وباركت هروب «زين العابدين بن علي»، وتدخّلت للقضاء على نظام القذافي، وفي سوريا دعمت المعارضة السنية المعتدلة.
وفي أغسطس 2014، أمر الرئيس الأميركي باراك أوباما الطائرات الأميركية بإطلاق غارات على «تنظيم الدولة» لوقف المجازر والإبادات الجماعية ضد الأقلية اليزيدية في شمال العراق؛ لكنّ الأمور تطوّرت في نهاية المطاف، ونشأ «التحالف الجوي لمحاربة التنظيم» بالتعاون مع الشركاء المحليين. لكن، للأسف، في هذه الأثناء وجدت إيران طريقها للعراق، وورث ترامب عواقب السياسة الأميركية لأوباما؛ والآن ترغب أميركا في مواجهة إيران وموازنة مصالحها الأخرى في المنطقة.
القوميون العرب وملوك الخليج
كان «الربيع العربي» في بدايته معارضة ضد 60 عامًا من الأنظمة القمعية القومية المتحجّرة التي هيمنت على المنطقة منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، وبينما كان هؤلاء القادة فاعلون رئيسون أثناء الحرب الباردة، وجدوا أنفسهم الآن في مواجهة «إرهاب إسلامي» متصاعد قدّم نفسه في المنطقة بديلًا للديمقراطية التي طالبت بها الشعوب العربية، من حسني مبارك مرورا بزين العابدين وصولا للقذافي وبشار الأسد وعلي عبد الله صالح.
وعلى عكس القوميين العرب، نجحت الممالك الخليجية في الإفلات من موجات الربيع العربي؛ باستثناء البحرين، التي شابتها احتجاجات شيعية؛ وعلى إثره تدخلت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية لمنع التهديد عن المملكة البحرينية، كما نجح الأردن في احتواء تظاهرات 2011.
بينما الدول الأخرى، كلبنان وفلسطين، تعاني بالفعل من اضطرابات منذ عام 2005 و2006؛ ولم تكن في حاجة إلى اضطرابات إضافية تقدّمها لهم الاحتجاجات.
ومثل الأنظمة الملكية ومحاولاتها البقاء على قيد الحياة وسط موجات الربيع العربي، تحاول الديمقراطية أيضًا البقاء على قيد الحياة في العراق ولبنان وتركيا، الأنظمة السليمة حاليًا.
المنافسة بين قوى التحرر والإسلاميين
لكن، سرعان ما تحوّل «الربيع العربي» إلى منافسة بين قوى التحرر والجماعات الإسلامية المتشددة؛ فغرقت ليبيا وسوريا واليمن في حروب اهلية وطائفية. أمّا تونس، حيث بدأ كل شيء، فهي المستفيد الوحيد من هذه الانتفاضات مجتمعة.
وأثناء حدوثها، حاولت قوى كثيرة السعي لاستغلال شغف الربيع العربي إلى الأبد؛ فتنافست إيران وتنظيم الدولة لكسب الصراعات الطائفية في سوريا والعراق وأماكن أخرى، وانضم 40 ألف «متطرف» من جميع أنحاء العالم إلى التنظيم عبر تركيا وسوريا.
في البداية، تظاهر هؤلاء المنضمون الجدد باهتمامهم بالثورة السورية ضد الديكتاتور بشار الأسد، قبل أن يتحوّلوا إلى التنظيم ويتحدّثون عن حلم الخلافة؛ ورأت أميركا والحلفاء الغربيين أنّ تصاعد «تنظيم الدولة» التهديد الأول لهم، فشكّلوا تحالفًا دوليًا بمساعدة الأكراد لمواجهته في سوريا والعراق.
تحالفات جديدة
ونتيجة لما تبقى من ذلك شُكّلت تحالفات جديدة؛ كإيران مع سوريا، والأحزاب السياسية الشيعية والمليشيات في العراق، و«حزب الله» في لبنان، والحوثيين في اليمن؛ وكلها في محور واحد تقوده إيران، ما أعطاها نفوذًا ممتدًا عبر العراق وسوريا إلى لبنان. وتشكّل التحالف الثاني من أميركا والسعودية والإمارات والأحزاب السنية في لبنان والجماعات الكردية في العراف وسوريا ومصر والأردن و«إسرائيل»، والتحالف الآخر فهو تركيا وقطر، الدولتان اللتان دعمتا الربيع العربي وموجات التغيير من بدايتها.
ومن جانبها، تريد أميركا الآثار الناتجة عن هذه الاضطرابات؛ عبر تحقيق الاستقرار في العراق، وقطع قطر ولبنان علاقتيهما مع إيران. وفي الوقت نفسه، تحاول تعزيز الحلفاء الإقليميين الرئيسين مثل السعودية و«إسرائيل».
المشاكل التي تسبّبت في اندلاع ثورات الربيع العربي لم تُعالَج بعد، وهو ما يحتّم اندلاع ربيع عربي آخر في المنطقة؛ وبالتالي إثارة الاضطرابات والقلاقل من جديد، فالبطالة متزايدة في أماكن مثل مصر، وهناك مطالبات بتمكين الجمتعات السنية في العراق وسوريا.