مرّ 51 عامًا منذ الهزيمة المخزية والمدوية للعرب في حرب يونيو 1967، التي احتلت على إثرها «إسرائيل» سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية وغزة والقدس فقط في غضون ستّ ساعات. ومثل باقي الذكريات، مرّت ذكرى هذا اليوم الأليم في صمت. ومثل أيّ دولة أخرى، لم يتوانَ الإعلام الإسرائيلي في تبرير الحدث، محتفلًا مع حكومته بانتصار جيش الاحتلال على الجيوش العربية و«استعادة القدس»؛ وهو اليوم الذي صادف أيضًا نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
ومنذ 5 يونيو 1967 يعاني العالم العربي من توابع هذا اليوم؛ فما بقي من فلسطين التاريخية ضاع مع القدس، التي لم تُفقد في اليوم الذي أعلن فيه ترامب قراره؛ بل فقدت في 5 يونيو 1967. وعلى مدار الخمسين عامًا الماضية كلّ الكوارث التي لحقت بالأمة العربية نتيجة مباشرة لهزيمة 67، الحرب التي خاضها جمال عبدالناصر دون استعداد، ووجود نصف جيشه في اليمن حينها؛ فيما كان يعاني النصف الآخر من حصار وهزيمة.
هذا ما تراه «أميرة أبو الفتوح»، رئيسة التحرير السابقة لصحيفة دايلي نيوز إيجيبت، في مقالها بصحيفة «ميدل إيست مونيتور» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفة أنّ «عبدالناصر» اتّخذ خطوات تسبّبت في الهزيمة المدوية؛ بدءًا من إعلانه إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، ما كان بمثابة إعلان حرب ضد «إسرائيل» لم يكن مستعدًا لها جيدًا. اتّخذ «ناصر» القرار كما لو كان يخوض مباراة وليست حربًا سيتحدد بناءً عليها مصير أمة بأكملها، بجانب أكاذيبه التي دسّها على الشعوب العربية؛ ونتيجة لذلك فقدت ثلاث دول عربية أراضيها لصالح «إسرائيل».
وثمّة غرابة ممن يطلقون على أنفسهم «قوميين» وما زالوا يرفعون صور «عبدالناصر» عالية لكنهك يكررون الهتافات الفارغة نفسها بالرغم من تسببه في ضياع القدس والمسجد الأقصى.
والآن، تبدو مصر خانعة، بل وبقية الدول العربية؛ فلم نرَ أيّ رد فعل على الجرائم الإسرائيلية في الأيام الماضية، ولم يتخذوا أي إجراء بعد نقل السفارة الأميركية للقدس. والأسوأ من ذلك مواقفهم تجاه «مسيرات العودة الكبرى» في غزة، التي اعتبروها بمثابة «انتحار جماعي للفلسطينيين» وليست سعيًا لحريتهم وحقهم التاريخي.
ومن المفارقات الغريبة أنّه في الوقت الذي انحرفت فيه البوصلة؛ تغيّرت المعايير الوطنية، وتغيّرت المفاهيم الأيديولوجية؛ فهؤلاء القوميون العرب، بالموقف الذي يتبنونه، هم في الخنادق نفسها مع خصومهم الليبراليين والعلمانيين؛ فهم الذين أدانوا هذه الحركة السلمية وأيضًا أدانوا المقاومة المسلحة ضد «إسرائيل».
وعلى مدار النصف قرن الماضي، شهدت الشعوب العربية حلقات مفرغة ومعاناة لم ولن تنتهي قريبًا، بجانب حالة من التهاوي لدى حكوماتهم وانحراف البوصلة؛ وهي سمة رئيسة في تعاملهم مع القضية الفلسطينية، تحديدًا منذ «عبدالناصر» حتى الآن، رغم اختلاف الوسائل والأساليب.
وأصبح الحكام العرب حرّاسًا لحدود «إسرائيل» وعملاءها في المنطقة، يحكمون وفق إملاءاتها، وأخيرًا يدعون الآن إلى سلام حار ودافئ معها متناسين القضية الفلسطينية؛ عبر موافقتهم على «صفقة القرن» لأجل إقامة علاقات اقتصادية مع الدولة اليهودية، بجانب الشراكة العسكرية؛ والأسوأ من ذلك سعيهم الآن لتشكيل محور تحالف جديد معها، وهو المحور «المصري السعودي الإسرائيلي الإماراتي» فقط من أجل مواجهة إيران وتركيا، العدوان المشتركان بينهم.
ولم يكن إعلان هذه الدول حربهم على الإرهاب فعلية على الإرهاب، بل على الإسلام نفسه؛ وترجع حالة الخلل التي تعاني منها المجتمعات العربية إلى فقدانها البوصلة الأخلاقية التي تحدد طريقة تناولها الأمور وتعاملها معها، وهو ما يشمل المفاوضات العبثية التي يطلقون عليها زورًا «مفاوضات السلام»، التي هدفت في الأساس إلى كبح جماح المقاومة، وتحمّلت وحدها عناء مواجهة الاحتلال طوال المدد الماضية.
وغير الدول العربية، سعت السلطة الفلسطينية نفسها إلى إقامة علاقات مع «إسرائيل»، والتنسيق معها على مستويات عالية لحماية الشعب الإسرائيلي لا الذين يقاتلون من أجل استعادة أراضيهم المسروقة.
وأخطر ما سببته انحراف البوصلة تجريف العقل العربي قبل تجريف الأرض الفلسطينية من العدو الإسرائيلي؛ إذ أدّت وسائل الإعلام الصهيونية والعربية والنخب المنتجة من المراكز الأميركية والصهيونية ودول البترودولار أدوارًا هائلة في هذا الأمر، وإقرارهم أفكارًا صهيونية تمحو الهوية الإسلامية والعربية، وتجرّد القضية الفلسطينية من معناها؛ والأدهى أنّ كل هذا يحدث بشكل علني.
ولسوء الحظ، تمكّنت «إسرائيل» بسهولة من اختراق النسيج العربي وإحداث حالة من الخلل.
والفرصة المتبقية أمام العرب لاستعادة كرامتهم هي «الشعب الفلسطيني» الشجاع في قطاع غزة، الذي قدّم -وما زال- تضحيات هائلة رغم الحصار والظلم الواقع عليه؛ فالفلسطينيون مصممون وعازمون على مواصلة مسيرات العودة الكبرى، رغم قتلاهم وجرحاهم الذين تخطوا المئات، إضافة إلى سعي «حماس» لمقاضاة «إسرائيل» دوليًا.
وهناك حقيقة واحدة مهمة: بالرغم من أنّ «إسرائيل» تمتلك ترسانة نويية وغير نووية؛ فالأمة الفلسطينية، أمّة «رزان النجار» ذات الـ21 عامًا، لن تُهزم أبدًا؛ فالأمة التي تحب الكرامة وتحيا لأجلها باقية للأبد؛ وهذا سبب تفاؤلي، فحالة الخلل التي خلقتها هزيمة «يونيو 67» لن تستمر أبدًا؛ ويومًا ما سيُقدر لها أن تختفي.