أيام طفولتي، عشتُ في حيٍّ بالقدس الشرقية، وواظبت قوّات الاحتلال على فرض حظر التجوال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى؛ وأتذكّر أنّ جنود الاحتلال كانوا يتسلّقون أسوار حديقتنا بشكل شبه يومي، وحتى حرب الخليج الأولى عام 1991، وأذكر ذلك اليوم الذي ألبسني فيه والدي قناعًا واقيًا من الغاز أثناء صغري؛ ليحميني من دخان القنابل المسيلة للدموع.
هكذا بدأت الكاتبة «يارا هواري»، المختصّة في الشأن الفلسطيني وسياسة الشرق الأوسط بجامعة إكسيترا، مقالها بصحيفة «ميدل إيست آي» وترجمته «شبكة رصد». مضيفة: أثناء رحلاتي اليومية ذهابًا وإيابًا إلى المدرسة، كنت أمرّ عبر نقاط تفتيش «إسرائيلية»، وأتذكّر بوضوح كيف كان يجادل والدي معهم؛ لمنعهم المواطنين من العبور بشكل تعسّفي.
كما أحمل ذكريات سعيدة منذ أيام طفولتي في القدس، أحببت مدرستي ومعلميّ والمعسكرات الصيفية، وأحببت التجوّل بصحبة والدي في المدينة القديمة؛ حيث كنا نتناول الكنافة ونزور الأقصى. أحببتُ القدس، كانت أشبه بعالم خاص بي، لم أكن أتخيّل أني سأغادرها أبدًا.
وعندما اضطررنا للمغادرة في عام 1991 كنت حزينة للغاية؛ فبعد 14 عامًا من حياتي في المدينة اضطررت إلى مواجهة صعوبات وحدي، كان يحميني منها والداي أثناء صغري.
ويصادف هذا الشهر الذكرى السبعين للنكبة، أو الكارثة التي محت فلسطين من الخريطة وأقامت مكانها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبعدها بعام رُسم خط هدنة بين الطرفين؛ وبموجبه سيطرت «إسرائيل» على القدس الغربية، ثم في عام 1967 احتلّت القدس الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، وحكمتها عسكريًا، وفي هذه الأثناء ضمّت أيضًا القدس الشرقية؛ ومنذ حينها تُنظّم حملات ممنهجة في محاولة لإزالة الفلسطينيين أنفسهم من المدينة.
وفي وقت ما، قرّرت «إسرائيل» منح الفلسطينيين المقيمين في القدس حق الإقامة الدائم؛ لكنّها حرمتهم من مزايا وخدمات اجتماعية، ولم يسمح لهم بالتصويت في الانتخابات «الإسرائيلية». وكانت أوضاعهم مستقرّة نوعًا ما عن غيرهم في قطاع غزة، والتزموا بالقوانين «الإسرائيلية»؛ وإلا حرمانهم من تصاريح الإقامة الدائمة.
لكن، في الواقع، منذ عام 1967، ألغيت تصاريح الإقامة الدائمة لنحو 15 ألف فلسطيني في القدس الشرقية؛ ما مثّل جريمة تهجير قسري من منازلهم وقراهم وبلدانهم. والتهجير القسري ليس الشيء الوحيد الذي يحدث في المدينة؛ إذ شرعت قوات الاحتلال بدعم أميركي في بناء المستوطنات غير الشرعية، في انتهاكٍ للقانون الدولي، والآن يوجد أكثر من 200 ألف مستوطن يهودي «إسرائيلي» يعيشون بشكل غير قانوني في القدس الشرقية. وعلى الناحية الأخرى في البرلمان، ما زالت قوانين بناء المستوطنات تمرر دون رادع.
إجراءات غير قانونية
وبالرغم مما تفعله، لم تواجه «إسرائيل» أيّ إدانات على جرائمها أو انتهاكاتها للقانون الدولي في فلسطين والقدس، إضافة إلى الإجراء الأميركي غير القانوني الذي بموجبه اعترفت رسميًا بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، لا لتشجيعها على سياساتها العدوانية ومواصلة إرساء الظلم؛ بل لإعطائها أيضًا الشرعية لسرد الملكية اليهودية الحصرية للقدس.
وبهذا الخِتم، ستواصل قوات الاحتلال هدم المنازل الفلسطينية، وإلغاء إقامة المواطنين الفلسطينيين، وسرقة أراضيهم؛ ما سيشجّع الحركات «الإسرائيلية» المتطرفة أيضًا مثل «جبل هيكل» إلى مواصلة مساعيهم لمحاولة هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وبناء معبد يهودي ثالث.
وفي بادرة قاسية رمزية، افتتحت الإدارة الأميركية سفارتها الجديدة في القدس قبل يوم واحد فقط من ذكرى النكبة الفلسطينية، والمزري أن السفارة الجديدة بنيت على أرض محتلة معترف دوليًا باحتلالها.
مساحات منعزلة
منذ 70 عامًا على النكبة، ويستمر وضع فلسطين والفلسطينيين في السوء، وعزلوا عن مدينتهم التاريخية التي شهدوا فيها أحلامهم وطموحاتهم وولدوا وتربوا بها، بينما تعزز «إسرائيل» من سيطرتها عبر تشريدهم وسرقة أراضيهم وتمزيق المجتمعات المحلية الفلسطينية، وتدمير الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في القدس الشرقية.
في النهاية، ما زال أمام المجتمع الدولي الفرصة لتصحيح الأوضاع؛ عبر اتخاذ إجراءات عاجلة بسحب الاستثمارات وفرض عقوبات، وحظر تصدير الأسلحة لـ«إسرائيل». وفي غياب هذا الضغط الملموس، ستواصل «إسرائيل» انتهاكاتها.