من المتوقع أن تشهد الأيام والشهور والسنوات المقبلة تفاقمًا لن يستطيع أحدٌ السيطرة عليه بسبب المياه. وبشكل عام، يعدّ الشرق الأوسط إحدى أكثر المناطق غنى بالنفط في العالم، غير أنها تعاني من شحّ في المياه العذبة لمستويات مرتفعة. وبالرغم من قلة منسوب المياه فيها؛ فـ6% من سكان العالم يتركّزون فيها وفي شمال إفريقيا، وبها حوالي 33 دولة تعاني من نقص حاد في المياه.
هذا ما يتوقّعه الكاتب الإيراني «رضا بهنام» في تحليله بصحيفة «أنتي وور»، المعنية بالنزاعات والصراعات المسلحة في العالم، وترجمته «شبكة رصد». مضيفًا أنّ تغيّر المناخ والجفاف والنمو السكاني المتزايد أدّوا إلى زيادة الطلب على المياه في هذه المنطقة القاحلة؛ ما غذّى الصراعات مقابل الاستقرار.
كما أدّى إلى مصادمات بين الدول وبعضها بعضًا؛ كالنزاع الدائر حاليًا بين مصر وإثيوبيا والسودان؛ ما ساهم في تفاقم التوترات داخل منطقة متوترة أصلًا منذ سنوات. بينما تعتمد دول الخليج الفارسي، الغنية بالنفط، على مياه الآبار وتحلية مياه البحر المالحة، وتصل تركيا وإيران إلى الاكتفاء الذاتي من المياه.
ويعتمد الشرق أوسطيون على مصادر للمياه: طبقات المياه الجوفية، والأمطار ومياه البحر المحلاة. وما يفاقم الكارثة أنّ طبقات المياه الجوفية في باطن الأرض تتعرض للجفاف بمعدلات مخيفة، وتعتبر تربة الشرق الأوسط خصبة، وعُرفت في السابق باسم «مهد الحضارة» عندما كان العالم يعتمد على الزراعة بشكل أساسي؛ فازدهرت زراعة الحبوب المهمّة، ووجد وفرة في الشعير، وازدهر إنتاج البيرة وتخميرها في المدن القديمة على طول نهر الفرات تحت إشراف آلهة سومر نحو عام 3900 ق م.
ومع ذلك، أصبحت معظم البلدان في المنطقة اليوم مستوردًا صافيًا للغذاء، خاصة الحبوب؛ إذ أسهم الجفاف وتغيّر المناخ في انعدام الأمن الغذائي وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وكان من أحد توابعها انتفاضات 2011 في مصر وسوريا، التي مثّلت تعبيرًا عن ثلاثة مطالب أساسية: عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
«ثورة العطش»
تستورد مصر 90% من قمحها من روسيا، وتعطّل اقتصادها في 2010؛ بعدما أدّت الحرائق البرية وموجة الحر في روسيا إلى زيادة أسعار المواد الغذائية في مصر بنسبة 30%. وفي عام 2004، خصخصت حكومة حسني مبارك إمدادات المياه في البلاد، وهو شرط فرضه البنك الدولي للحصول على قروض؛ لكنّ الحماسة الثورية اشتدّت عندما حوّلت الحكومة المياه إلى جيوب الأثرياء، بينما أصبح وصول المياه لباقي السكان في مصر أكثر صعوبة، وما صاحبها من تضاعف الأسعار؛ ولا عجب أنّ محللين مصريين وصفوا ثورة يناير 2011 بأنها «ثورة العطش».
وأصبحت سوريا معرّضة للخطر على وجه الخصوص بعد أن شهدت أسوأ موجة جفاف منذ 500 عام؛ إذ ساهمت المحسوبية الحكومية وسوء إدارة موارد المياه في فشل إنتاج المحاصيل الأساسية، وما تبعها من أزمة غذائية. وبين عامي 2006 و2011، فشلت نحو 75% من المزارع في سوريا؛ ما أدّى إلى هجرة نحو 1.5 مليون سوري إلى المراكز الحضرية، وفي النهاية نشوب الحرب الأهلية المستمرة حتى الآن، التي اندلعت عقب الثورة السورية.
والتنافس على موارد المياه أصبح عاملًا مهمًا في الصراعات عبر الحدود، واضطرابات الدول؛ وتهيمن التوترات الخاصة بالمياه حاليًا على السياسات في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
كما ساهم النمو الكبير في بناء السدود على طول الأنهاء في تفاقم هذه التوترات. وتتعلق المياه في بلدانٍ بالأمن القومي. وعلى سبيل المثال: بنت تركيا وإيران مئات السدود لتلبية احتياجاتها المائية، بينما دفعت الدول المجاورة ثمنًا باهظًا.
أنهار وأزمات
وتبرز النزاعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الأنهار الرئيسة الثلاثة: النيل، دجلة والفرات، حوض نهر الأردن؛ وهي أنهار تشترك فها دول كثيرة.
ففي إثيوبيا يقع منبع نهر النيل، وتشترك معها إفريقيا الوسطى والسودان. وتعتمد مصر كليًا تقريبًا على مياه النيل. وعلى مدى قرون، استخدمت نفوذها للسيطرة وحماية ما تراه حقها التاريخي في المياه، وبنت سد أسوان العملاق، الذي اكتمل بناؤه عام 1971، وأعطى الدولة الأداة المناسبة للسيطرة وإدارة موارد المياه لديها.
ولحماية السيطرة على النيل؛ شجّعت مصر على مر السنين الصراعات في إثيوبيا والسودان، معتقدة أنّ الاضطراب سيعرقل مشاريع تنمية المياه في هذه البلدان، وشجّعت -على سبيل المثال- التمرّد الصومالي لجبهة أوغادين للتحرير الوطني ضد حكومة إثيوبيا، في كفاح الجبهة لاستعادة منطقة أوغادين المتنازع عليها، أو المنطقة الإثيوبية الصومالية في إثيوبيا. وفعلت الشيء نفسه في السودان؛ عبر مساعدة جيش التحرير الشعبي السوداني المتمرّد في جنوب السودان في حربه الطويلة مع شمال السودان.
ويعد سد النهضة الإثيوبي هيدروكهرومائيًا، بني على النيل الأزرق؛ ما سبّب قلقًا خاصًا في مصر. فإثيوبيا ترى السد، الذي سيكون الأكبر في إفريقيا، المفتاح أمام مستقبلها الاقتصادي والطاقة؛ لكنه يعني لمصر نقصًا في المياه، فضلًا عن نقص نفوذها السياسي.
ويشكّل نظام نهر دجلة والفرات مصدرًا مستمرًا للصراع بين الدول التي تشاركه؛ فالأنهار هي شرايين حيوية للعراق وسوريا، ومناطقه الرئيسة في المنطقة الجبلية جنوب شرق تركيا، وهي منطقة يقطنها الأكراد، واستخدمت تركيا موقعها الاستراتيجي دولة في المنبع للانخراط في سياسات القوة وللحفاظ على نفوذها على جيرانها الجنوبيين، ولإدارة أمور السكان الأكراد (نحو 15 مليون نسمة) والسيطرة عليهم؛ لكنّ نظام السدود الواسع في تركيا أدّى إلى نقص في المياه في أجزاء من سوريا والعراق وإيران.
أحد مشاريع السد الأكبر والأكثر إثارة للجدل في تركيا هو «(Guneydogu Anadolu (GAP»، المعروف أيضًا باسم «مشروع جنوب شرق الأناضول»؛ وينطوي على بناء 22 سدًا على طول نهري دجلة والفرات في تسع محافظات مختلفة يغلب عليها الطابع الكردي.
وأحد أكثر السدود المثيرة للجدل «إليسو»، الذي يهدد بتقليل تدفق المياه إلى مجرى النهر ويتسبب في ضرر إيكولوجي لحوض نهر دجلة، فيما سيُغرق السد القرى الريفية؛ ما سيجبر الآلاف على الانتقال من منازلهم دون تعويض، وغالبيتهم من الأكراد.
ومن المحتمل أن يُغرق السد مدينة حسانيف القديمة، التي يعتقد أنها واحدة من أقدم المدن في العالم، ويؤكد الأكراد أنّ مشاريع سد أنقرة تهدف إلى تدمير هويتها الكردية وإضعاف حزب العمال الكردستاني المحظور، وتشعر سوريا والعراق وإيران بالقلق من أن «إليسو» سيخفض التدفقات؛ ما يؤدي بدوره إلى مزيد من تآكل التربة وزيادة معدلات الملوحة واللاجئين، كما يقلل السد من نصيب العراق من المياه بنسبة 56%؛ ما يهدد وجود مستنقعاته الجنوبية.
وتمتلك إيران وحدها أكثر من 600 سد؛ وبذلك لديها القدرة على إحداث فتنة عابرة للحدود، فمشاريعها مثل «دارين»، سد ضخم على نهر سيروان أحد روافد نهر دجلة، من المفترض أن يقلل إمدادات المياه إلى إقليم كردستان العراق بنسبة 60%؛ وبدأت الحكومة تدرك أنّ سوء التخطيط وسنوات الجفاف أبطلا جدوى سدود، بعدما ساهم عديد منها في الأضرار البيئية.
ففي خوزستان على سبيل المثال، وهي محافظة إيرانية غنية بالنفط على الحدود مع العراق، أصبحت حرفيًا أرضًا قاحلة؛ وخُفّضت إمدادات مياهها بمقدار الثلثين بسبب بناء السد على نهر كارون، ومع جفاف النهر والأراضي الرطبة؛ فرّ المزارعون إلى المدن بحثًا عن العمل، وبدأت الاحتجاجات بين 2017 و 2018 في جميع أنحاء إيران بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والبطالة؛ ما انعكس على أزمة الهجرة والتمرد في سوريا.
ويعاني قرابة 96% من مساحة إيران من مستويات مختلفة من الجفاف الذي طال أمده، فيما تناضل تسع مدن رئيسة، بما فيها طهران، بالفعل من أجل الحصول على مياه صالحة للشر؛ ما يعتبر إنذارًا بالخلل، وشهدت أصفهان مواجهات بالفعل بسبب نقص المياه؛ فأثار بناء أفغانستان لسد «كمال خان» على نهر هلمند مخاوف لدى الإيرانيين، وسيحد السد من تدفق النهر، كما يزعزع استقرار المحافظات الجنوبية الشرقية المضطربة، وهي منطقة فقيرة ذات أغلبية سنية.