لم تكن نتيجة الانتخابات المصرية هذا الشهر مفاجِئة لأيّ أحد؛ فعبدالفتاح السيسي، الذي تولى السلطة في 2013 بعد انقلاب عسكري، حصل على 79%، ولم يكن لدى المصريين أيّ اختيارات أخرى. ومنذ انقلابه بدأ حملته القمعية ضد الجميع، وقالت «إن بي آر» إنه اعتقل ستة مرشحين محتملين أو ضُغط عليهم من أجل الانسحاب. ورأى الباحث السياسي في المجلس الأطلسي «إتش هيلير» العام الماضي أنّ الطبقتين الوسطى والعليا في مصر رحّبتا بالسيسي في البداية باعتباره الترياق ضد الإسلاميين.
ويعدّ السيسي الحاكم العسكري الأكثر هيمنة منذ عقود، وبالتأكيد كان سيُصدم قبل عشر سنوات بعد تراجع القوات المسلحة إلى حد كبير عن السياسة، في وقت كانت فيه الديمقراطية تزدهر على المستوى العالمي؛ لكنّ تسعينيات القرن الماضي شهدت سيطرة كبرى للجيوش عالميًا على أنظمة الحكم، وإضعاف الحكم المدني بشكل كبير؛ وهو ما رحّب به المواطنون حينها، وبدا غريبًا!
هذا ما يراه الباحث بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي «جوشوا كورلانتزيك»، في مقاله بصحيفة «واشنطن بوست» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّه بالرغم من شيوع فكرة الانقلابات أثناء الحرب الباردة؛ فإنّها أصبحت نادرة بحلول عام 1989. فمن أندونيسيا إلى البرازيل وتايلاند وتشيلي، سلّمت القوات المسلحة السلطة على مضض إلى المسؤولين المنتخبين، وتعهّد قادة الجيوش الأصغر سنًا في هذه الدول بالابتعاد عن السياسة وتجنّب الانقلابات المباشرة.
لكنّ الأمور تغيّرت في العقد الماضي، وبدأت الجيوش تعود من جديد، وحتى في أنظمة ديمقراطية شهدت تدخل جيوش في الحكم بطريق مباشر أو غير مباشر؛ كما حدث في المجر وإيطاليا والفلبين وبولندا، وأحيانًا في أميركا. كما تعثّرت مؤسسات في هذا السبيل. وفي أكثر الحالات سوءًا، كما حدث في مصر وتركيا، تعارضت الديمقراطية مع طبائع الحكم التي اعتادت عليها المؤسسات في هذه الدول أثناء العقود الماضية، ثم بدأت القوة العسكرية تزدهر من جديد في دول مثل أندونيسيا والبرازيل، واحتضنتهم الطبقات الوسطى.
توقعات وخيبات
وكان للطبقات التي احتضنت الحكم العسكري أسبابها؛ أوّلها اعتقادهم بأنّ الإصلاح السياسي سيحقق التنمية، لكنّ ارتفاع معدلات التمييز في العالم أصابهم بخيبة أمل؛ إذ ساهمت عوامل مثل التغيّرات التكنولوجية والاقتصادية والثاقية، بجانب موجات الهجرة إلى أوروبا وسياسات التقشف التي اتبعتها دول مثل تايلاند، إلى انعدام الاستقرار على نحو متزايد. كما زادت سيطرة الأحزاب على الشعوب غير الليبرالية؛ حتى إنّ دولًا مثل روسيا والصين أصبحت تمارس نفوذًا على جيرانها.
لذلك تدخلت الجيوش مرة أخرى، محاولين القضاء على الديمقراطية؛ ما جعل هذه الدول أسوأ من قبل، وأصبح القادة المدنيون في أضعف حالاتهم، وتعرّضت الدول إلى خطر الانقلابات، ودخلت في دورات لا تنتهي من التدخل العسكري.
وفي ديمقراطيات العالم الأكثر ديناميكية، لم تستطع الجيوش فعل ما فعلته في الدول النامية؛ لكنّ الأمر كان أسوأ على مستوى الشعوب. ويعتقد معظم الأميركيين أنّ وجود نظام عسكري أمر جيد، وأكّد 19% منهم أنّ النظام العسكري ما هو إلا شكل غير شرعي للحكم.
وفي أوروبا، أبدى معظم الشباب، على عكس المسنين، رفضهم الاستيلاء العسكري على السلطة؛ فاعتبر 36% من جيل الألفية أنّ الحكم العسكري غير شرعي، ورأى 53% من الأوروبيين الأكبر سنًا أنّه مناسب.
وحتى في المناطق التي شهدت ديمقراطيات ثابتة، بدأت الجيوش في الانقضاض على ما تبقى منها؛ كما حدث في البرازيل على سبيل المثال؛ إذ حكم نظام عسكري وحشي بين عامي 1964 وحتى 1985. لكن، في السنوات الأخيرة، احتلت الديمقراطية مكانًا راسخًا؛ إلا أنّ الجيش عاد مرة أخرى للتدخل في الحياة السياسية، واستدعت الحكومة القوات المسلحة لتولي مهمة الأمن في ريو دي جانيرو، الحي الذي ضربته الجريمة؛ ما أقلق النشطاء السياسيين البرازيليين وسكانًا فقراء غالبًا ما تستهدفهم الأجهزة الأمنية السيئة السمعة في هذه الدولة.
وفي البرازيل، تحمّل الفقراء أيضًا عبء موجة الجريمة الوحشية، ويبدو أنّه السبب الذي جعل عديدين منهم يرغبون في عودة الجيش إلى تولي دفة الأمور. وقال زعيم ريو إنّ القوات المسلحة اُستُعديت في مدن أخرى غير ريو دي جانيرو. ويفضّل المسؤولون البرازيليون الذين يميلون نحو اليمين عودة الجيش إلى الحكم وممارسة أدوار سياسية.
على سبيل المثال: أثنى مرشح الرئاسة الرائد «جير بولسونارو» مرارًا على دور القوات المسلحة البرازيلية، مقللًا من الانتهاكات التي ارتكبها في حق المدنيين. وتقول منظمات حقوقية إنّ الجيش البرازيلي يشتهر باتّباع أساليب التعذيب والصعق بالكهرباء في حق المعارضين وغيرهم من آلاف المواطني، وارتكب فظائع عدة.
الحنين إلى الاستبداد
ولاقى التدخل العسكري في ريو دعم الطبقات المتوسطة والعليا، كما حدث في مصر ودول أخرى؛ بالرغم من فضائح الفساد والركود الاقتصادي، وما يدفعهم إلى ذلك حنينهم إلى الماضي الاستبدادي الذي لاقى رواجًا وطنيًا حينها.
وقال «فانيسا باربارا»، كاتب عمود في صحيفة برازيلية، إنّ أغلب البرازيليين يعتقدون أنّ دولتهم ستصبح أأمن إذا تولى الجيش مقاليد الحكم. وكشف استطلاع رأي مؤخرًا أنّ 43% من المواطنين البرازيليين يؤيدون السيطرة العسكرية على الحكم، وهو رقم أزيد بنسبة 35% عن استطلاع مماثل في 2016 بالبرازيل.
البرازيل ليست حالة فريدة من نوعها، فهناك أسباب تجعل عامة الناس في الديمقراطيات الوليدة، خاصة الطبقتين الوسطى والعليا، يعتقدون بشكل متزايد أنّ تدخلات الجيش يمكن أن تكون مقبولة، وأنّ الجيش يمكن أن يحافظ على المعايير الليبرالية أو يعوق «الشعبوية غير الليبرالية».
وأدى التحرر من الإيمان بالحكومة الديمقراطية في أماكن بالعالم إلى رغبتها في إعادة النظر في البدائل الاستبدادية. على سبيل المثال: لم يتحمّل المواطنون في مصر والفلبين الحكم المدني لـ«رودريغو دوترت والدكتور محمد مرسي»، ولم يتمتّعا إلا بقليل من الوقت لإرساء الحقوق المدنية والمحاكم المستقلة، ولم تعطهم جيوش بلدانهم الفرصة؛ فسارع قيادات هذه الجيوش إلى تقديم أنفسهم على أنهم الضامن للاستقرار والقيم الدستورية في ديمقراطيات أخرى، مثل إندونيسيا.
ومرّت عقود منذ آخر عصر للحكم العسكري ولم يُحتفَ بالمجهودات العسكرية للقادة العسكريين في المدارس والمناهج التعليمية كما حدث مع بلدان أخرى؛ ما سمح بإزالة هذه المدة من العقل الجمعي للمواطنين. لكن، وعلى المنوال نفسه، تعدّ الطبقات العليا والمتوسطة في هذه الدول داعمًا أساسيًا ومؤيدًا أوّل لعوة الجيش لتولي الأمور السياسية.