إن لم تكن فلسطين وضياعها السبب الرئيسي لقيام ثورة تُخلص الشعب من هذه الحكومة، إن تهمشت الثوابت في أول إرتفاع لسعر البنزين وإنخفاض لكرامتنا، إن أصبح سعر كيلو البندورة أهم من حياة أسير مع علمنا المُسبق أنه لا معنى للتروي والوقت في ضيافة الموت، إن حصل كل هذا " وهو الواقع " فلا أعتقد أن قائمة ستقوم لهذا الشعب الذي هب لجوعه ولم يهب لكرامته.
لن أسمح أن يعتقد من يقرأ هذا المقال أن الكاتبة لا تعيش في هذا الوطن ولا ترى الفقراء، وأعلم جيدا أن البعض سيتحدث عن الأولويات، لذلك قبل كل شيء، أنا أشكر ناجي العلي الذي قال عبارة كتبتها على باب قلبي وستبقى معي ما حييت " يتهمونني بالإنحياز، وهي تهمة لا أنفيها عن نفسي، نعم أنا منحازة لمن هم (تَحت) ".
بِتنا في كل يوم نسمع عن فلسطيني ينوي حرق نفسه، مِنَ غزة إلى الخليل إلى رام الله، وكل ذلك بسبب "غلاء المعيشة"، لا شك أن الأمر يستحق الغضب من حكومة الضفة الغربية، ومن سلام فياض ذلك الذي لم يعرف معنى الجوع وزحمة المواصلات وأقساط الجامعات والمصاريف، فهو يعيش برعاية أمريكية إسرائيلية، لكن أن يُقدِم كل فلسطيني شَعَرَ بالغلاء على حرق نفسه فهو أمر سخيف، لا لإستخفافي بالوضع الإقتصادي المتدهور، بل لأنه إن كان هناك مَن يستحق الحرق فهي الحكومة بمن فيها، ولا أقصد فقط حكومة سلام فياض، بل الحكومة التي وضعت سلام فياض وتحاول الآن التخلص منه بتوجيه غضب الشعب نحوه.
هل هذا الغلاء سياسة! ومن يستطيع أن يقول لا ونحن نأكل ونشرب سياسة!
سلام فياض بات شخصية غير مرغوب فيها لا من الشعب ولا من الرئاسة ولا من فتح، وأوامر الرئيس بعدم التعرض للمظاهرات المنددة بالغلاء تدل على أنه يريد توجيه غضب الشعب نحو فياض، وما يؤكد ذلك، هذا القمع الذي شاهدناه للمظاهرات التي خرجت منددة بزيارة موفاز إلى رام الله، وإتهام مَن فيها بأنهم "طابور خامس" مع أن سبب خروجهم يستحق الغضب !! وهذه مفارقة لا يجب أن تفوتنا.
ومع هذه المظاهرات، وإنشغال الناس بهمومها اليومية الزائلة يأتي حاكمنا المُبجل ليأخذ راحته بالتصريحات ويقول ليُرضى الحاخامات " إسرائيل وجدت لتبقى ".
ألا تستحق هذه العبارة أن يثور الشعب ضد قائلها !
وحدها ال80 بالمئة من فلسطين التي تنازلوا عنها مقابل رغيف خبز وراتب ثابت تستحق الثورة.
نأتي للأهم، الشعب على مشارف الجوع، والأسرى على حافة الموت، من الأهم يا ترى مع العلم أن "لا أحد سيموت من الجوع" ؟
هذا التسطيح للثوابت، وتجاهل أهم قضية للشعب الفلسطيني وهي قضية الأسرى يثير التساؤل، فكل هذا يُهمش الخطر الحقيقي الذي يحيط بالقضية الفلسطينية، حالة الأسرى المضربين عن الطعام التي دخلت مرحلة الخطر، تهويد القدس، توسع المستوطنات، إعتداءات المستوطنات، معادلات السلام والمفاوضات التي لا ناتج لها سوى الصفر، كل هذا وذاك لم يعد يثير غضب الفلسطيني مثل "غلاء المعيشة"، ويدل ذلك على أن الشعب الذي لا يثور لأجل كرامته سيبقى تحت إحتلال معدته، خاصة أن السياسة المرسومة تسعى لتجويع الشعب الفلسطيني وتدويخه وحصر تفكيره في لقمة العيش، وتلقائيا لن يكون هناك وقت للمقاومة ولا للتفكير بالتحرر، وسيظل الخضوع واجب "لتمشاية الحال".
عندما يشارف أسير على الموت لا نجد أي تحرك من المؤسسات الحكومية، كنا نستجدي إدارة الجامعات كي يسمحوا بتنظيم فعاليات مناصرة للأسرى، لكن الرفض كان حليفا لمطالبنا، وأحيانا تتدخل الأجهزة الأمنية وتعتقل كل من يجرؤ على التفكير بعمل أي تحرك، لكن الآن ولأن الحياة "الزائلة" أهم من كرامتنا التي سيكتبها التاريخ ونورثها للأجيال القادمة، بدأت مجالس اتحاد النقابات في الجامعات والمعاهد بالتهديد في القيام بخطوات تصعيدية احتجاجا على "عدم التزام وزارة التعليم العالي بتحقيق علاوة غلاء المعيشة للعاملين فيها، الأمر الذي سيؤدي إلى القيام بمسيرات جماهيرية ميدانية تنطلق من المؤسسات ".
بالله عليكم متى كان الشعب الفلسطيني فوق خط الفقر وتحت خط الكرامة ؟
سبب ما نحنُ فيه من بلاء وغلاء هي حكومة "التنسيق الأمني" وهذا ما يؤكدهُ البروفسور عبد الستار قاسم حين كتب في إحدى مقالاتهِ قائلا :" تم ربط صرف أموال الدول المانحة بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، وإذا توقفت السلطة الفلسطينية عن التنسيق الأمني أو قصرت بالقيام به أو ترددت فإن تدفق الأموال سيتوقف".
" لقد اشترى الغرب من الفلسطينيين (السلطة) أنفسهم بالمال، وهم قبلوا مقايضة الوطن بلقمة خبز مهددة ".
" المأساة الحقيقية أن الحقوق الفلسطينية قد تقلصت عمليا إلى راتب وسيارة ومتع لصاحب السلطان، أما الشعب فعليه أن يبقى تحت مطارق الصديق والعدو".
ما أردت قوله لكل فلسطيني يُقدم على حرق نفسة:" بوعزيزي فلسطين: لا ثَورَة سَتَقوم بِمَوتِك، الحكومة أولى أن تُحرق، فكل فاسد فيها لا يساوي شعرة من جسدكَ الفقير" وهذا يعني أن الثورة إن لم تقوم ضد كل فاسد ولشيء يستحق، خاصة أننا كشعب فلسطيني لدينا العديد من الأسباب للغضب، فإنها ستكون كما يقول المثل الشعبي " مِثل الطبل الفارغ، لا يوجد فيه إلا الصوت"، والأولى أن تَعرف يا عزيزي "المُحتَرِق بنار الغلاء" من أجلِ ماذا يجب أن تقوم ثورة الفلسطيني!
نَسينا أنّ نمضِي نَحوَ الكَرامَة، تَركناها مَوروث جَميل لِلعَجائِز، وإنشَغلنا بِكروِشِنا التَي تَقدَمَت على عُقولِنا، ورَبطات عُنقنا التِي ضَيقَت رؤيتنا لِلحرية، فَقد إعتادت رِقابنا على الإختِناق بِها ولِأجلِها..
أحيانا أتمنى أن يكون للأسير خيط عصب مرتبط بمعدة المواطن، كلما تألم الأول وضاق ذرعا، ضج الثاني وخرج ليحرق نفسه.
لو كان كذلك لتحررنا، ولكن التحرر باتَ بالضبط كهذا الخيال.
فقط الآن أستطيع أن أجزم أننا أصبحنا تحت خط الكرامة.