هذا المقال يتحدث عن شريحة تتصدر آلة التوجيه السياسي والفكري في الحركة الإسلامية، هي قليلة بين التيار الإسلامي وأقل منها بالنسبة للأمة، كما أن تأثيرها يزيد ضعفا مع الوقت، إلا أنها لا تزال تملك قدرا كبيرا من التوجيه، وتملك نصيب الأسد في احتكار المشهد الثقافي والإعلامي التقليدي، ونشأت لها طبقة من الشباب تحذو حذوها كذلك، وإن كانت ما تزال ضعيفة.
(1)
كان نموذج أردوغان ملهما لقطاعات من الحركة الإسلامية في العالم العربي، ولا نبعد إن قلنا إنه النموذج المطلوب الذي أحبت تلك الحركات أن تراه.. فمنذ طلَّقت هذه الحركات سبيل المواجهة مع الأنظمة الحاكمة واعتمدت سبيل الإصلاح وهي تتشوق لتجربة تثبت لها أن الإصلاح ممكن من خلال الدخول في العملية السياسية وحدها.
أحبوا أن يغفلوا عن كل الفوارق بين الأوضاع في تركيا والعالم العربي (وأهمها أن تركيا لا تزور الانتخابات، والعسكر فيها يسمحون للإسلاميين بالوصول إلى رأس السلطة قبل أن يقرروا الانقلاب. بينما العالم العربي يطارد من يحفظون القرآن ويقومون الليل في المساجد ولا يعرفون شيئا يسمى انتخابات نزيهة).
أحبوا أن يغفلوا كذلك عن الشقاق الحاصل بين أربكان وأردوغان، وفي زمن قديم لا يقرأ فيه العرب باللغة التركية أحبوا أن يتصوروا أن هذا الشبل (أردوغان) من ذلك الأسد (أربكان) وأنه امتداد له لا انشقاق عليه، وبهذا يكون نموذج تركيا هو النموذج الإسلامي المعتدل الذي قبل به النظام العالمي لأنه يحترم الديمقراطية واختيارات الشعوب، واكتُشِف لأول مرة أنه يمكن التصالح مع “النظام العالمي” إذا جاء الإسلاميون إلى السلطة عن طريق انتخابات نزيهة، وقدَّموا “نسخة إسلامية معتدلة”.
وعلى جانب آخر كان النجاح المتوالي لحزب العدالة والتنمية في تركيا يُروى على وجهه الاقتصادي وحده، ويُنسب هذا النجاح لذلك المجهود الاقتصادي الضخم الذي يُكَتِّل الشعب خلف من صنعوه، ويبني دولة قوية مستقلة سياسيا بعد أن استطاعت أن تستقل اقتصاديا! وكان يُغفل تماما تناول أسلوب أردوغان من حيث السيطرة التامة على الحكومة (= لا توافق) ومهاجمته القاسية لخصومه السياسيين وللإعلام التابع لهم، وضرباته القاسية للدولة العميقة وتنظيماتها العسكرية والأمنية، وإدارة علاقاته وتوازناته الدولية وما سوى هذا من سياسات.
وهكذا، في ظل التصور السابق، ما على الحركة الإسلامية سوى تقديم هذه المعادلات لتحصل على هذه النتائج:
1- تضغط باتجاه الانتخابات النزيهة والإصلاح السياسي في بلدانها + تقدم نسخة إسلامية “معتدلة” لا تضاد المصالح الأجنبية = قبول النظام العالمي بوصولها للسلطة
2- تحقيق إنجاز اقتصادي كبير = تكتل شعبي + استقلال اقتصادي
3- تكتل شعبي + استقلال اقتصادي = استقلال سياسي وبناء الدولة الإسلامية المنشودة وتحقيق النموذج الإسلامي.
والأهم أن هذه النتيجة النهائية ستحقق دون الدخول في مواجهة مع الأنظمة الحاكمة.
هذه المعادلات حاول الإخوان في مصر وتونس والمغرب تقديمها بعد ثورات الربيع العربي، وصار مرسي هو أردوغان مصر والغنوشي هو أردوغان تونس وبن كيران هو أردوغان تركيا.. غير أن جميع هؤلاء الثلاثة لم ينجحوا في شيء مما نجح فيه أردوغان! وحصلت الانتكاسات المعروفة في تلك البلاد بينما ظل أردوغان ينجح!!
مسالك التبرير لا تنتهي، وليس هذا موطن تعيير أحد بإخفاقه، ولا حتى هي الآن محاولة تفسير(*)، إنما القصد أن هذا التصور الذي تكون عن “أردوغان” تعرض لصدمة عنيفة في عدد من المواطن أهمها اثنان: الإجراءات الثورية القاسية التي اتخذها أردوغان بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل، والاستفتاء على تعديل النظام إلى الرئاسي.
لم تستوعب هذه “النخب” ما يحدث، لقد ظهر أردوغان حاسما صارما عنيدا وبدا مستبدا وقاسيا وعنيفا ويضرب بقوة ويعلن حالة الطوارئ ويلح على الرجوع إلى حكم الإعدام. ثم لم يكفه هذا حتى أراد تحويل النظام إلى رئاسي كأنما يريد الهيمنة على النظام والاستئثار بالصلاحيات.
الواقع: لقد ظهر الوجه الآخر الذي حاولوا أن يتجنبوا رؤيته دائما من أردوغان وسياسته، وبالرغم من أن هذه “النخب” صار أغلبها مهاجرا في اسطنبول أو كثير الترداد عليها بعد فشل ثورته في بلده، إلا أن كثيرا منهم -وبجرأة عجيبة- اتخذوا موقف المفكر المنظر الديمقراطي القانوني المدافع عن الحريات وصاروا يعزفون نغمة: لستَ أردوغان الذي نعرفه!
الحقيقة: نعم. أردوغان الذي تخيلتموه هو الذي فشل في مصر وتونس والمغرب. وأردوغان الذي نجح هو الذي يضرب بعنف ويُغالب القوى داخليا وخارجيا حتى يصل إلى ما يريد، بكل إلحاح وإصرار.
(2)
أنبتت حالة الانسداد السياسي في العالم العربي حالة سياسية بائسة، لدينا العديد من أساتذة العلوم السياسية أو ممن يتحدثون في السياسة لم يعرفوا السياسة إلا من مناهجها الأكاديمية التي تدرس في الجامعات أو من متابعة الصحافة الأجنبية وإصدارات المراكز البحثية. وقد بدا واضحا -لاسيما في زمان الثورات- أن هؤلاء لم يستطيعوا التعامل مع الواقع حين أتاحت لهم الأحداث أن يكونوا صناعها أو مستشاريها!
بل إن بعضهم -وهو قانوني مؤرخ ممن يشار إليهم بالبنان- كان يشعر بالازدواج في نفسه بين القانون والتاريخ، كان يدرك أن منطق القانون هو تهدئة الأمور والسير في السبيل الإصلاحي والحفاظ على مؤسسات الدولة، بينما منطق التاريخ -وهو ممن أرَّخَ لثورات من قبل- يعني ضرب القانون وتحطيم النظام القديم وكسر مؤسسات الدولة حتى تخضع للثورة، ثم غلب القانونيُّ فيه المؤرخَ فكان من دعاة القانون حتى التقطت الدبابة أنفاسها وأعادت مؤسسات الدولة تشغيل ماكينتها الدموية فسحقت الثورة سحقا لا مكان فيه لا لقانون ولا لرحمة!
أتذكر هنا الكلمة الحكيمة لسيدي الشيخ الكبير، الأسير البصير، حازم أبو إسماعيل الذي سُئل: ماذا تقرأ؟ فقال: أحب أن أقرأ المذكرات الشخصية، ولا أحب أن أقرأ الكتب الفكرية التي تحلق في فضاء الفكر. كان أبو إسماعيل من النادرين للغاية الذين رأيتُ القانون فيهم لم يغلب على السياسي أو الزعيم!
هؤلاء “المفكرون” أو “الفلاسفة” لا يرون في مشهد السياسة إلا مسألة فكرية، ولذلك فهم يناقشون الأمور كأنهم جالسون على مقهى ثقافي أو في منتدى علمي، كمسألة معزولة عن السياق والواقع والمآلات، ويقيسون مدى اتساق المسألة المطروحة مع أصول الفكر والسياسة والديمقراطية التي نَظَّر لها الفلاسفة.
ويستطيع بند واحد أن يُلهب الفيلسوف ليتحدث عنه رفضا وتحذيرا وتنديدا (وهؤلاء عادة يرفضون لا يؤيدون.. إذ كيف لمثقف أن يؤيد ويدعم؟! فعادة المثقف أنه رافض بالطبيعة!!) دون أن يتصور قيمة هذا البند ضمن بقية البنود، أو آثار قبول أو رفض التعديلات على البيئة السياسية ومراكز القوى والمواقف الإقليمية والدولية، وأين مصلحة الأمة حين تثقل كفة هذا الطرف أو ذاك.. إلخ، وكل هذه أمور فارقة في الرؤية لا مجرد القيمة الذاتية للبند نفسه.
والواقع أن عموم الناس يملكون هذا المقياس بالفطرة، وما أحكم ابن خلدون حين أفرد فصلا في مقدمته عن أن المتشبعين بالعلوم نظريا شغوفون بتجريد المسألة وهندستها رياضيا فيختلط عليهم ما لا يختلط على العامة الذين ينتبهون لمثل هذه الفوارق.
وهم لهذا يتخذون موقفا سخيفا دائما من المتحمسين لمواقفهم، ذلك أن أولئك الغوغاء “الشعبويين الديماجوجيين” (لا بد طبعا من استعمال ألفاظ مثقلة وتبدو كأنها فخمة) لم يقرأوا التعديلات، أو لم يدرسوها، أو لم يفهموها، ولو أن الذي طرحها عليهم غير أردوغان لكان موقفهم معاكسا… إلخ!
هم لا يسألون عادة: ما آثار قبول أو رفض التعديلات الدستورية على مستوى الواقع السياسي الآن، بل على مستوى المستقبل: ماذا لو جاء رئيس غير أردوغان بعد عشر سنوات؟ ماذا لو انتخب الأتراك يساريا أو علمانيا فيما بعد؟ ألم يمكن تأجيل الاستفتاء، هل هذا هو التوقيت المناسب؟ (مسألة التوقيت المناسب هذه تصيبني شخصيا بالحساسية، إذ لم أر محللا يستطيع تحديد الوقت المناسب لأي شيء قبل أن ينجح.. فإذا نجح أسهب في الحديث عن أن هذا الإجراء جاء في الوقت المناسب تماما!!)
لقد أفاض هؤلاء في التحذير من الهيمنة وحكم الفرد، مع أن خصوم أردوغان في هذا الاستفتاء هم الذين لا زالوا يعبدون أتاتورك!! فلئن كان الأمر حقا ضد عبادة الفرد فتثقيل كفة أردوغان هو الأولى!!
ولهذا فإن السياسيين لا يتعاطون الفلسفة لأن الشعوب -ببساطة- ليسوا فلاسفة!
ألا ليتنا في بلادنا أنجبنا أردوغان المستبد -بميزان المتفلسفة- ولم ننجب مرسي التوافقي ولا الغنوشي المتنازل ولا بن كيران الذي رضي أن يكون زخرفا حتى أزيح ليأتي من هو أطوع منه!