يشهد هذا الأسبوع الذكرى السنوية لنهاية حكم 700 عام من الأفارقة المسلمين لإسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا.
ونشرت صحيفة “كاونتر بانش” مقالًا للكاتب والباحث في جامعة هارفرد “غاريكاي تشنج” بعنوان “كيف تسبب الأفارقة المسلمون في تمدين إسبانيا؟”، تحدّث فيه عن التاريخ المنسي لمجد إفريقيا وتمهيدها الطريق لعصور النهضة، وعَقَدَ مقارنات بين الوضع في الدول التي حكمها الأفارقة وبين الأوروبيين في هذه الفترة.
وإلى نص المقال:
منذ 108 أعوام، وقّع الملك فيليب الثالث على قرارٍ تم اعتباره أحد أشكال التطهير العرقي. ففي ذروة المحاكم التفتيشية الإسبانية، أمر بترحيل 300 ألف مسلم موريسكي؛ ما اعتبر واحدًا من أكثر الأحداث وحشية في تاريخ إسبانيا.
وعلى خلاف السائد، فإن الأفارقة القدامى هم من جلبوا الحضارة لإسبانيا وجزء كبير من أوروبا، وليس العكس. ونشأت الحضارة الأولى لأوروبا في جزيرة كريت اليونانية في عام 1700 قبل الميلاد، وتمدّن الإغريق على أيدي الأفارقة السود في وادي النيل، ومرّر الأفارقة هذه الثقافة المكتسبة إلى الرومان، الذين فقدوها في النهاية؛ وبالتالي بدأت العصور الوسطى واستمرت لخمسة قرون. وأعيدت هذه الحضارة مرة أخرى إلى أوروبا عندما أنهت جماعات من الأفارقة هذه العصور المظلمة.
وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، تم دفع عديد من القبائل البيضاء المتحاربة إلى غرب أوروبا على أيدي الغزاة. وغزا الموريون الشواطئ الإسبانية عام 711، وحكموا في النهاية إسبانيا والبرتغال وشمال إفريقيا وجنوب فرنسا لحوالي 700 عام.
وعلى الرغم من محاولة أجيال من قادة إسبانيا شطب هذه الحقبة من التاريخ؛ فإن علم الآثار والمنح الدراسية ألقيا الضوء على مساهمات الموريين في مجالات الرياضيات والفلك والفن والفلسفة؛ ما ساهم في دفع أوروبا من العصور المظلمة إلى عصور النهضة.
وأشار المؤرخ البريطاني الشهير باسل ديفيدسون إلى أنه خلال ثمانية قرون حظت الحضارة الإفريقية التي تكوّنت في إسبانيا بإعجاب الجميع. وكان الموريون ذوي بشرة سوداء، واستخدم الكاتب المسرحي الشهير ويليام شكسبير كلمة “مورو” مرادفًا لإفريقي.
وكان التعليم هامًا في إسبانيا المسلمة، في حين كانت نسبة الجهل في أوروبا المسيحية تصل إلى 99%، وحتى الملوك لم يستطيعوا القراءة أو الكتابة. وتباهى الموريون بمعدل مرتفع جدًا لمحو الأمية في مجتمع ما قبل الحداثة. وخلال هذا العصر، كانت هناك جامعتان فقط في أوروبا، في حين امتلك الموريون سبع جامعات. واستلهم مؤسسو جامعة أكسفورد فكرتها من جامعات الموريين في إسبانيا.
وفي مجال الرياضيات تم إدخال الأرقام العربية والـ(0) والنظام العشري لأوروبا من المسلمين؛ ما ساعدهم في حل المشكلات بشكل أسرع ووضع أساس للثورة العلمية.
وامتد الفضول العلمي للموريين إلى الطيران؛ حيث قام “ابن فرناس” بأول محاولة في العالم للطيران بشكل محدود في سنة 875، وقالت المحفوظات التاريخية إن محاولته نجحت؛ ولكن كانت هناك مشكلات في الهبوط. وبهذا وصل الإفريقيون إلى السماء قبل ستة قرون من تطوير الإيطالي ليوناردو دافنشي للطائرة الشراعية.
ومن الواضح أن الموريين ساعدوا في إنهاء العصور المظلمة في أوروبا ومهّدوا الطريق لعصور النهضة. وهناك عديد من المجالات التي أخذتها أوروبا من إسبانيا المسلمة؛ منها التجارة الحرة، والدبلوماسية، والحدود المفتوحة، والتقدم الرئيس في الكيمياء، وغيرها.
وفي الوقت الذي بنى فيه الموريون 600 حمام عام، وعاش الملوك في قصور فخمة؛ فإن الممالك في فرنسا وألمانيا وإنجلترا أقنعت تابعيها أن النظافة كانت خطيئة، وكان الملوك يعيشون في حظائر كبرى لا توجد بها نوافذ أو مداخن، وغالبًا تكون بها ثقوب صغيرة في السطح لخروج الدخان.
وفي القرن العاشر، لم تكن قرطبة عاصمة للموريين الإسبان فقط؛ ولكنها كانت أهم مدينة في أوروبا. وكان عدد سكانها حوالي نصف مليون، وكذلك كان هناك 50 مستشفى و500 مسجد و70 مكتبة، احتوت إحداها على أكثر من 500 ألف كتاب.
حدثت كل هذه الإنجازات في الوقت الذي كان فيه عدد أميي لندن حوالي 20 ألفًا، ونسوا التقدم التكنولوجي الذي حققه الرومان قبل 600 عام. ولم تظهر الطرق الممهدة وأضواء في الشوارع في لندن أو باريس إلا بعد مئات الأعوام.
وحظرت الكنيسة الكاثوليكية إقراض الأموال؛ ما أعاق أي مجهودات لإحداث تقدم اقتصادي. وكانت القرون الوسطى في أوروبا بائسة، انتشرت فيها الأمية والهمجية.
وفي عصر استكشاف أوروبا العظمى كانت إسبانيا والبرتغال قادة في مجال الملاحة البحرية. وأحدث الموريون تقدمًا في التكنولوجيا الملاحية، فضلًا عن التحسينات في رسم الخرائط وبناء السفن. ومهّد ذلك الطريق لعصر الاكتشاف؛ ولذا فإن عصر هيمنة أوروبا في نصف الألفية السابقة نشأ من البحّارة الموريين الأفارقة في شبه الجزيرة الإيبيرية خلال أعوام 1300.
وقبل فترة طويلة من تكليف الملوك الإسبان لكولومبوس بالبحث عن أراضٍ حتى الغرب، أنشأ الأفارقة المسلمون من بين آخرين اتصالًا مع الأميركتين، وتركوا انطباعًا عن الثقافة الأصلية.
وظهرت مجموعة كبيرة من الدلائل التي تثبت أن الأفارقة أبحروا بشكل مستمر من أتلانتا إلى الأميركتين قبل آلاف السنين من وصول كولومبوس. وسلّط الدكتور باري فيل، من جامعة هارفارد، الضوء على مجموعة من الأدلة التي تثبت وصول المسلمين إلى أميركا أولًا؛ من خلال المنحوتات والتقاليد الشفوية، والعملات، وتقاليد شهود العيان، والوثائق العربية، وغيرها.
ولم يكتف المسلمون الإسبان بتثبيت التقدم الفكري في مصر القديمة واليونان والحضارة الرومانية؛ لكنهم توسعوا وقدموا مساهمات هامة في مجالات الفلك والصيدلة والملاحة البحرية والهندسة المعمارية والقانون.
وأعطى بعض الباحثين الغربيين انطباعًا بأن إسهامات القارة الإفريقية في الحضارة كانت محدودة أو معدومة، وأن شعبها بدائي؛ ما تسبب في تكوين بنية أساسية للتحامل العنصري والعبودية والاستعمار والقمع الاقتصادي المستمر لإفريقيا.
وإذا حاول الأفارقة إعادة كتابة التاريخ الحقيقي فسيكشفون مجدًا كبيرًا، ويعتبر أكبر تهديد تجاه وجود مستقبل عظيم لإفريقيا هو جهل شعبها بتاريخهم المجيد.