شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

من فصول المأساة

من فصول المأساة
هذه الأمور التي تملكت علي وجداني وأقعدتني خلال الأيام الماضية عن الاحتفاء بالعيد الذي جاء كما عن العمل. إنسانيتنا المعاصرة عاجزة، وصمتنا على الاستبداد والظلم يدمين

ستة أمور تملكت علي وجداني خلال الأيام الماضية. أولها، بترتيب اقترابي منها أو حدوثها، كلمات مؤثرة للصديق أحمد ماهر (حركة ٦ ابريل) عن صيام رمضان وراء الأسوار، ثانيها شموع الحزن والترحم التي حدقت بها صامتة أعين الكثير من مواطني بنجلاديش التي ضربها هي الأخرى الإرهاب، ثالثها المشاهد المؤلمة للدماء التي أسالتها والأشلاء الآدمية التي مزقتها التفجيرات الإرهابية في بغداد، رابعها كلمات مبكية لوالد المصور الصحفي محمود شوكان عن معاناة ابنه المحتجز وراء الأسوار وأصابته بفيروس سي، خامسها حوار إذاعي باللغة الإنجليزية مع طبيب أمريكي-سوري يسرد به بعضا من تفاصيل الأوضاع المأساوية للأطفال في حلب بعد زيارة ميدانية قام بها (بث الحوار إذاعة البرنامج الوطني العام في الولايات المتحدة الأمريكية)، سادسها التفجير الإرهابي بجوار المسجد النبوي في المدينة المنورة.

بحث أحمد ماهر عن “نصف الكوب الممتلئ” لتحمل شهر الصيام الثالث له وراء الأسوار، وجاهد نفسه لاكتشاف فضيلة التغلب على الحبس الانفرادي وظروف السجن الصعبة بالعبادة الانفرادية لله الواحد القهار.

حدقت أعين حاملي الشموع في دكا (عاصمة بنجلاديش) في صمت مهيب بعد أن استباحت عصابات الإرهاب مجددا دماء الأبرياء، وأضافت خليط من البشر إلى قوائم الضحايا، وأعادت تذكيرنا بعجزنا عن مواجهتهم وإيقاف جرائمهم.

ثم ثبتت مشاهد الألم والدماء والدمار الواردة من بغداد، ولم تكن قد مرت على تفجيرات مطار أتاتورك في اسطنبول وعلى أحداث إرهابية في لبنان ومصر سوى ساعات قليلة، الانطباع بعجز الإنسانية المعاصرة عن حصار هؤلاء المجرمين وبتداخل شرور الإرهاب والعنف والتطرف والمذهبية والظلم. لم تحدق أعين العراقيين صامتة ولم تحمل أياديهم شموع الحزن، بل هتفت الحناجر لا إله إلا الله وحملت الأيادي أشلاء الضحايا الذين قتلوا على الهوية أو قتلوا للقتل أو قتلوا لدموية داعش والعصابات الأخرى.

ولأن وقائع الظلم شأنها شأن انتهاكات الحقوق والحريات ليست ببعيدة عن معاناة الإنسانية المعاصرة، ذكر والد محمود شوكان بكلمات قليلة بالظلم الذي يواجهه ابنه وراء أسوار الاستبداد التي سلبت حريته وبسبب أسوار التخلف وغياب العدل الاجتماعي التي سلبته الحق في رعاية صحية تحول بينه وبين الوقوع ضحية لفيروس لعين ينهش أجساد المصريات والمصريين دون هوادة أو تمكنه هو وغيره من الضحايا من العلاج السريع دون تمييز بين “مرضي عنهم” و”مغضوب عليهم”، دون تمييز بين متواطئين مع الاستبداد وبين رافضين له.

وينقلب ترادف ضحايا الاستبداد والظلم وانتهاك الحقوق والحريات مع ضحايا التخلف وغياب العدل الاجتماعي إلى مأساة كاملة في الحالة السورية. بل وتتقاطع مع جرائم المستبد وعصاباته جرائم الإرهابيين، وكأنهم في سباق عبثي على استباحة دماء الناس ودفعهم إلى اليأس من إمكانية أن تتوقف المأساة وأن ينقذ المتبقي من إنسانيتهم وتتراجع وحوش الموت والجنون التي تهبط بها عليهم براميل المستبد المتفجرة أو تلقي بها إلى مدنهم وقراهم قنابل داعش ومفخخاتها. سرد الطبيب الأمريكي-السوري وقائع القتل الممنهج للأطفال في حلب وحقائق الاستهداف المنظم للمستشفيات قليلة العدد وللأطباء الأقل عددا، حكى عن عذابات من بقي مصابا على قيد الحياة ويحشر في أماكن تحت الأرض طلبا للحماية من البراميل المتفجرة والغارات المتكررة وهربا من القنابل فوق الأرض، ذكر التفاصيل البائسة لعجز الأطباء الأبطال في غياب المعدات والأدوات الطبية عن إنقاذ أغلبية الأطفال دون بتر لأطراف أو تضحية بالقدرة على الحركة أو اعتبار فقدان حاسة النظر أخف الضررين، أضاف من التفاصيل ما جعل الأمر لا يقل فظاعة من عمليات القتل الجماعي التي شهدتها الحروب العالمية والحروب الأهلية الأشد دموية. أنهى الطبيب مداخلته الإذاعية بإشارة إلى الهوية المهنية للمستبد كطبيب، واستمرئ أن يكون من درس إنقاذ حياة الناس وطرائق شفائهم قادر على إحداث كل هذه الدموية والوحشية. غير أنه جنون السلطة وكرسي الحكم الذي لا يمانع المستبد في إبادة شعبه بأكمله لكي يبقى جالسا عليه.

وكأنهم يريدون من الإنسانية المعاصرة أن تتيقن من أن عنفهم لا مضامين دينية له ولا حدود قصوى قد تردعه، كرر الإرهابيون تفجيراتهم بجوار المسجد النبوي في المدينة المنورة، أمام قبر رسول الله (عليه الصلاة والسلام). أي عبث هذا؟ أي جنون هذا؟ أي استهزاء هذا بمقدسات دين يدعون الانتماء إليه؟ إلا من ينتهكون حرمة الدماء ويغتالون حق الناس المقدس في الحياة ذبحا وحرقا وشنقا وتفجيرا، هؤلاء المجرمون لن تردعهم مقدسات دينية ولن تمنعهم عن القتل هيبة المكان.

هي هذه الأمور التي تملكت علي وجداني وأقعدتني خلال الأيام الماضية عن الاحتفاء بالعيد الذي جاء كما عن العمل. إنسانيتنا المعاصرة عاجزة، وصمتنا على الاستبداد والظلم يدمينا، ولا خلاص لنا من جنون الإرهاب سوى بمواجهته هو والاستبداد دون تمييز أو مفاضلة، ولا حماية لمقدساتنا الدينية ستتحقق ما لم نحمي حق أطفالنا المقدس في الحياة ونمنع استكمال فصول المأساة.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023