لا ينظر عزمي بشارة إلى الثورة بوصفها حلاً وسطاً، بل هي في الواقع التعديل الجوهري في علاقات السلطة والثروة، لإنهاء الاستبداد كأصل مؤسس للدولة وكمنظومة للإدارة. التحليلات، على المستويين العمومي المرتبط بالنواحي الكلية لظاهرة الثورة والتحليل على المستويات التفصيلية التي تتطرّق للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من خلال منهجيةٍ مركبةٍ تأبى الاختزالية والتعجل، وتتقبل اللايقين، وتتعامل معه بالفحص والتساؤل. وعلى الرغم من ذلك، الجهد الذي بذل في موضوعة الثورة مبنىً ومعنىً، ظاهرة وخبرة، أحداث ومواقف، فكرة وعبرة، يتواضع بشارة أمام ضخامة ظاهرة الثورة المصرية، ويحيل مهمة استكمال الإحاطة بجوانبها إلى جيلٍ جديدٍ ثائر، طالما راهن عليه، وسماهم “أفضل من في هذه الأمة”، فاعلا في الثورة ومجدّدا لمجتمعه، يؤمن بأن هذا الحدث سيلهم تلك الأجيال الجديدة، وسيكون مفصلياً في تاريخ العرب.
لا تستطيع أن تشرع في فهم الثورة من دون هذه المقدمة التاريخية الممهدة عبر 350 صفحة، والتي تصف تعقّد المشهد المفضي إلى الثورة، وتيسّر التعرف على كم المدخلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي رسمت الحدث الثوري. إنه تشريح جاد وحاد للذاكرة، موظف بعنايةٍ ومن دون افتعال. ليست الذاكرة ظاهرةً ميتةً، لكنها نشاط حي، يتعلق بحركة التاريخ حركة مركبة، هكذا يفهمها عزمي بشارة، وينطلق منها لدراسة الثورة المصرية، التاريخ ليس وصفةً، بل حركة الجماهير لا تحدّدها فحسب خرائط نخبوية.
هذا العمل هو بذاته مغامرةٌ بحثيةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، لكنها لدى بشارة محسوبة. وعلى الرغم من أنها مُحاطة بغيوم اللايقين، إلا أنه شق أصعب طريق الى المعلومة، فالحدث الثوري لم يزل قائماً، وعلى الرغم من الانقلاب، وحيوية الثورة التي انحسرت، إلا أنها لم تزل كامنةً، وتحتدم تحت ركام الإحباط والتآمر. إنها حقيقة الأمل في صناعة المستقبل، تشهده وتعاينه، حينما كان يظهر عزمي بشارة على شاشات “الجزيرة”، ليمارس حالةً نضاليةً تنحاز للثورة، شباباً وأملاً.
الحسّ التاريخي لدى بشارة يجعله يسعى إلى موازنةٍ بين إدراكٍ معرفيٍّ، يرى أن القرب من الظاهرة محلّ البحث ومعاصرتها يشكل حجاباً وغمامةً توضع على عين الباحث، وبين تلك الخشية التي مبعثها الروح النضالية، من أن الصراع على الثورة هو، في باطنه، صراع على سرديّتها، وأن هذا التاريخ محلٌّ لعمليةٍ معقدةٍ لطرح سردياتٍ بديلةٍ للحقيقة والتزييف، وهو جزء من أفعال الثورة المضادة. هل يقعد الباحث وينتظر، أم يدلف إلى عتمة الظاهرة المعاصرة المحتدمة أمامه، ويسعى إلى استجلاء ما فيها من حقيقةٍ، بجهدٍ واجتهادٍ وتوثيقٍ وإسنادٍ وصبر ودأبٍ بعمل بحثي جاد.
يعترف بشارة في المقدمة بأن “.. كتابة تاريخ الثورات، باعتبارها حوادث استثنائية، تتجلى باقتحام قوى شعبية مسار التاريخ مباشرةً، من أجل أن تعيد نظام الحكم. هي عملية مركّبة للغاية، ويصبح العمل أكثر تركيباً وتعقيداً، إذا أقدم عليه الباحث قبل انقضاء مدة زمنية طويلة، والحدث في حالة فوران”. ويلزم بشارة نفسه بأن المهم، إذا ما اقترب الباحث من الظاهرة وفاعليها، ورأى أن له موقعاً منحازاً أخلاقياً لكرامة الإنسان وحريته والعدل، شعارات رفعتها الثورة، إلا أن ذلك لم يمنعه من التسلح بالوعي وأدوات المنهج العلمي في الاستقراء، وألا يندفع إلى أحكام القيمة، وإبداء المواقف السياسية في خلال بحثه.
من الملاحظات الطريفة استعارته، في أحد الهوامش في مفتتح الجزء الثاني، حديث ماركس في كتابه “الثامن عشر من بروميير لويس بونابرت”، دان مجمل النخبة التي سمحت بصراعاتها وعجزها عن التوافق من أجل الديمقراطية، فسمحت لشخصٍ متوسط الموهبة والذكاء، من أن يؤدي دور البطل على مسرح الأحداث. ثمة “ميديوكرات” حكمت طبائعهم وتوجهاتهم حيال الثورة، فآلت إلى أكثرهم خفةً ووضاعةً، اعتمادا على العنف والقهر والروح الفاشية.
كمون الفشل لا يعني أن المستقبل محتومٌ بمقرّرات الفشل، بل يؤكد هذا الكتاب أن عملية التغيير وتصحيح المسارات وتحقيق أهداف ثورتنا كانت تتطلب جهداً أكبر وإبداعاً أكثر أصالةً، والفشل فيما مضى هو باب للتذكير والتنبيه، على الرغم من ارتفاع كلفته، لكنه لا يمنع من أن تبنى القدرات، مرة أخرى، لتجاوز هذا التردّي، إنه أمل المستقبل.
تجاوز طبيعة الباحث والمثقف التقليدي إلى المثقف العضوي لدى غرامشي المؤمن بوظيفته الكفاحية، على ما يؤكد أستاذنا حامد ربيع، وأنيط به التعبير عن صعود كيانها الاجتماعي، وخصوصاً فئته الشابة، وهم أغلب من وردت شهاداتهم في هذا التوثيق، وطموحات هذه الفئة الثائرة ومصالحها. فقدّم نمذجةً للتعبير عن هذه الطموحات، والمتمثل في المشروع الديمقراطي، وأسهم بإيجاد الرأسمال الرمزي المعبر عن هذه الطبقة الصاعدة، والطاقة الاجتماعية التي حلمت بالثورة ونادت بها، هذا من دون أن يتخلى عن حياده البحثي والمنهجي.
حين يؤيد عزمي بشارة الاتفاق على المبادئ الديمقراطية بين الفاعلين المحسوبين على الثورة والمعبرين عن فئاتها، سواء في قلب الدستور أو في ديباجته، أو في وثيقةٍ منفصلةٍ، فإنه يرى المهم في أن تتمخض هذه المبادئ على إطار للالتزام بين القوى السياسية، لا يورّط في ترك مساحاتٍ للعب الثورة المضادة، وتحكّمها في الخلافات البينية بين القوى السياسية واللعب في المساحات البينية فيما بينها. وثيقة علي السلمي لا ينتصر لها عزمي ولا طرح محمد البرادعي عن مبادئ فوق دستورية. الأمر لديه هو جزء من البنية الدستورية، وليس قفزاً عليها، وليس غايته أن يمنح حصاناتٍ للماضي، بقدر ما يمنح حمايةً للنظام الجديد، ويضبط بوصلته جهة الديمقراطية، ويعزّز وجوده.
يتحرّك بشارة بدقة في الفصل والوصل في التمييز والتعيين بين الانتقال الثوري وإملاءاته والانتقال والتحول الديموقراطي وتوقيتاته وترتيباته، بين الفصل والوصل ولد هذا المشروع الطموح، غطى مساحةً متسعةً من الفاعليات والأحداث المفصلية، ودمج رؤى وتصورات وشهادات عدد وافر من الشخصيات المؤثرة، لتقديم سرديةٍ معتبرةٍ للثورة المصرية، لا تتورّط في الدعائية، ولا تنحدر إلى مستوى اختزال الثورة. إنها معركة المعنى، يديرها عزمي بشارة، إدارة صراع المعاني كما يحدده وليد سيف، أو “الصراع على استملاك أنظمة المعاني التي تشكّل الوعي العام، وتوجه فهمنا للواقع وتأويلاتنا ما يجري فيه، وتعريفاتنا وقائعه، وهذه بدورها تحدّد أنماط استجاباتنا لمؤثرات الواقع وتحدياته”. الأمر مهم في هذه الأحوال، وهو أكثر أهمية في معركة الثورة في مواجهة الثورة المضادة.