يتعرّض المشرق العربي وامتداداته لتحوّلات تسعى القوى الدولية إلى ترجمتها بتغييرات، قد تُرسم فيها خرائط وحدود جديدة حيثما اتضحت «الضرورة» والقابلية، كما في العراق، وربما تنتظر انحسام الصراع على الأرض، كما في سورية، وقد تؤسس لتغيير يمسّ أيضاً تركيا وإيران إذا أُريد «إنصاف» الأكراد وتمكينهم من دولة تجمع أشتاتهم. غير أن إنصاف الفلسطينيين لا يبدو وارداً في هذه العملية، إذ تتعامل القوى الدولية مع قضيتهم كأنها انتهت بالأمر الواقع الحالي، فإسرائيل ترفض «الدولتين» أو حتى «الدولة الواحدة» وتمهّد لفرض صيغة مناطق الحكم الذاتي وتكريسها في إطار أي تسوية كبرى شاملة، عندما تنضج.
كان اتفاق «سايكس – بيكو» السابق، عام 1916، رسم خريطة المنطقة موزّعاً الأكراد على أربع دول، أما الاتفاق المقبل الذي قد تظهر معالمه من دون أن يُنجز في 2016، فسيحاول رسم حدود بين الأعراق والمذاهب والدول، كأن الصراعات الراهنة لم ترجِع المنطقة إلى ما قبل انهيار الدولة العثمانية، بل إلى ما يشبه حال الدويلات التي كانت عليها في حقبة الحملات الصليبية. ومثلما اخترق الأوروبيون والروس احتياجات «رجل الشرق (العثماني) المريض» وعوامل الضعف الكثيرة التي اعترته لينفذوا إلى أطراف «إمبراطوريته» ومجتمعاتها المتعددة الأصل والدين والمذهب ويتوزّعوا تركتها، في عملية دامــت نـحو قـرنين ونيّف حتى اكتملت، لم يتطلّب الأمر أكثر من بضعة عقود كي يتمكّن الأميركيـون والأوربـيـون ثم الروس، ومعهم الإسرائيليون ثم الإيرانيون، من اقتياد «رجل الشرق (العربي) المريض» إلى وضعية الاستضعاف نفسها من دون أن يكون قد توصّل إلى بناء أي «إمبراطورية» ذات تركة تستحقّ التقاسم.
تكاد اللحظة الراهنة تشي بأن «لعبة الأمم» تعاود العبث بالمنطقة من خلال «الدولة العثمانية» سابقاً، كأن قوة تركيا ارتبطت بتغرّبها وعلمانيتها وأطلسيتها وبنائها دولة ومؤسسات، أو خصوصاً بفك ارتباطها مع العرب والإسلام، ما منحها مناعةً راسخة. أما اتجاهها منذ عقد ونيّف نحو إسلام سياسي «معلمن»، ثم استعادتها الروابط مع العالم العربي وانعطافها نحو مزيد من «التأسلم»، فجعلت منها عرضةً للاستهداف. لا أوروبا تستطيع ضمّها إلى اتحادها، ولا أميركا تواصل إعجابها بـ «نموذجها» والترويج له عربياً، ولا الأطلسي المتمسك بعضويتها معنيٌّ بأجندتها الإقليمية وتداعياتها التي تضطرّه إلى تجديد «الحرب الباردة السابقة»، ولا روسيا تفوّت فرصة سنحت لاستعادة نهج «الاتحاد السوفياتي سابقاً» في تفجير عدائها لتركيا حتى لو تطلّب الأمر أن تعاقب موسكو نفسها حين تفرض عقوبات على أنقرة. هذه المواقف، معطوفةً على الاستعداء الإسرائيلي لتركيا (بسبب تعاطفها مع الفلسطينيين) والاستعداء الإيراني (من منطلق مذهبي، وكذلك في سياق الصراعين السوري والعراقي)، تتضمّن إشارات إلى ابتعاد رجب طيّب أردوغان عن «إسلامه المعلمن»، أو بالأحرى تتذرّع بذلك لإضعاف تركيا، إلى حدّ أن هجوميتها وحتى جنوحها إلى الحيادية لم يعودا ممكنين الآن، ولا مفيدَين.
لا شكّ في أن الوضع الاستراتيجي لتركيا لم يتزعزع بعد، لكنه لم يعد كما كان، فالخلاف مع روسيا لن يُحلّ قريباً، والمراهنة على الحلفاء الأميركيين لن تجني سوى تكرار للخيبات. يُستدلّ على ذلك من ثلاث وقائع: أولاها، أن موسكو تستثمر حادث إسقاط الطائرة إلى حدٍّ أقصى ليس فقط ضد تركيا لكن أيضاً لدفع الولايات المتحدة وحلف «الناتو» إلى كبح أي اندفاع تركي، ولإثبات أنها في صدد تكريس الواقع الذي يبنيه تدخلها في سورية. ثانيتها، أن أنقرة تلقّت رسائل العقوبات الروسية بحسّ استراتيجي بعيد المدى دفعها إلى البحث عن بدائل لاستيراد النفط والغاز ومصادر أخرى للسياحة وأسواق جديدة لتجارتها. وثالثتها، أن مواقف واشنطن و «الناتو»، على رغم التزمها حقّ تركيا في الدفاع عن سيادتها، كانت متشدّدة في رفض أي مواجهة مع روسيا، لذا اتسمت بالحذر حين أُوقف طلب تركي للقيام بدور أكبر في الحملات الجوية، بل إن واشنطن انتهزت الظرف السانح لتذكير أنقرة بأن المطلوب أولاً منها تأمين حدودها مع سورية وعدم قصر غاراتها على مواقع حزب العمال الكردستاني بدلاً من مواقع «داعش».
وفيما استجابت الولايات المتحدة و «الناتو» للتحذير الروسي، إلا أن الاشتباك الجوي أكد لهما أن روسيا اجتازت خطوة إضافية نحو فرض حال من الحرب الباردة حول تركيا، أكثر تقدّماً مما شهدا في أوكرانيا حيث لا يواجهان احتمال الاحتكاك المباشر مع روسيا. لكن الحادث لفت إلى أن البازار الدولي المفتوح يتيح استخدام كل الأوراق السابقة والمستجدّة. فجأة أصبح «نوبل السلام» باراك أوباما، الممانع أي تدخّل، مهتمّاً بإرسال قوات خاصة إلى سورية ومزيد منها إلى العراق، وملحّاً على فرنسا وبريطانيا وألمانيا للمشاركة في تفعيل «التحالف الدولي». ووجد فلاديمير بوتين فرصة مناسبة لنصب منظومة صواريخ «إس 400»، إضافة إلى ترسانتيه الجوية والبرّية بعدما مرّر صفقة الـ «إس 300» إلى إيران. وفيما طرح الأطلسي معاودة العمل باتفاقات فيينا الناظمة قواعد الاشتباك خلال الحرب الباردة، ها هو يدعو منتينيغرو (الجبل الأسود) للانضمام إليه، وها هي موسكو تحتجّ وتحذّر من هذه الخطوة. لكن الجميع يستخدم ورقة «داعش» ومحاربة الإرهاب باعتبارها ذروة الاستغلالات التي توفّر «الشرعية» لكل التدخلات، فضلاً عن كل أنواع الابتزازات لدول المنطقة وللعرب العالقين في العراء بين «معابر» خطيرة، بعضها يقودهم إلى مستنقع «داعش» وبعضٌ آخر إلى حروبهم الأهلية. بل تُستغلّ ضدّهم أيضاً أوراق تركيا وإيران وإسرائيل، المتصارعة على الحصص المتاحة من «التركة» العربية. ويبدو أن روسيا تريد اجتذاب أميركا إلى تفاهم على استبعاد تركيا عن أي تحاصص، طالما أنها لا تلعب اللعبة كما تفعل إيران وإسرائيل.
تتفق الدول الكبرى بحزم على استبعاد أي مواجهة مباشرة في ما بينها حول سورية، وتختلف بشدة على طريقة إدارة «الحرب بالوكالة» في ما بينها منذ اختلال التوازن العراقي بالتدخل الإيراني في إدارة حكومة بغداد، واختلال التوازن السوري بالتدخل الروسي المباشر لمصلحة النظام. وتبدو حرب تحرير الأنبار ونينوى فرصة أميركا لإصلاح أحد أفدح أخطائها بعد غزو العراق، من خلال السعي إلى بناء «كيان سنّي» في المحافظات التي ضغطت إيران لإخضاعها. أما حرب تحرير الرقة ودير الزور فتبقى رهن سباق أميركي – روسي إلى اعتماد «قوات برّية»، وكان الأميركيون تعمّدوا إحباط «الجيش السوري الحرّ» إرضاءً للروس، وافتتح هؤلاء عملياتهم الجوية بقصف هذا الجيش وبمحاولات غير موفقة لاستمالته، فإذا بالجانبين يحتاجان إليه الآن.
اعتقد الأميركيون لوهلةٍ أن قوات «حزب الاتحاد الديموقراطي» وبعض الفصائل المتعاونة معه تفي بالمطلوب، لكنهم لمسوا إشكاليات مشابهة لتلك التي اعترضتهم مع ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق. واعتقد الروس أيضاً أن لديهم قوات النظام التي قالت دعايتهم أنها الوحيدة المؤهلة لدحر مقاتلي «داعش»، لكنهم اكتشفوا أنها موزّعة ولا تستطيع مغادرة مواقعها لئلا تفقدها وهذا عدا أن «ثقافة التشبيح» دمّرت صدقيتها، وعلى رغم أن الروس استخفّوا بدايةً بمسألة الصراع السنّي – الشيعي، إلا أن إشكالية الاعتماد على ميليشيات موالية لإيران في خوض القتال أعادتهم إلى الواقع.
على هذا الخلفية من صراعٍ دولي وإقليمي متصاعد، وتسابقٍ إلى المصالح باستغلالات مقيتة للضعف العربي المزمن ولتناقضات الشعب السوري ودمار عمرانه واقتصاده، وكذلك لمعضلة الإرهاب، يقترح جون كيري مثلاً أن «الضرورات» تتطلّب تعويم نظام بشار الأسد وإقناع المعارضة بـ «حل سياسي»، لتتشارك قواتهما في محاربة «داعش»، ولتشجيعهما على ذلك يمكن استقدام «قوات عربية» لمواكبتهما. ومن ثمّ تكون المكافأة بإبقاء بشار الأسد في الحكم، كما لو أنه ليس مسؤولاً عن كل هذا القتل والدمار والإرهاب.