النظر إلى اللحظة التاريخية العربية الراهنة، ولا سيما في المشرق العربي، وبعد استكشاف سماتها الخاصة والمميزة لها عن قرن ماض بطوله، من جهة سيولتها، وعمقها، واتساعها، وشمولها، واستمرارها، وسرعة تحولاتها، واستعصائها على الترويض، وكثرة الفاعلين فيها، ودور الجماهير والتشكيلات المتمايزة عن الفاعلين التقليديين، وانفتاح الثغرات الهائلة في الجدران التي أقامها الفاعلون التقليديون من دول ومنظومات دولية بأجهزتها ومؤسساتها، فإن السؤال ينبغي أن يتجه إلى الفرصة التي تتيحها هكذا لحظة للفاعلين غير التقليديين، وقدرتهم على استكشاف تلك الثغرات الضخمة والولوج منها للمساهمة في التدافع على صياغة التاريخ وضمان موقع في المستقبل.
اللحظة التاريخية التي من هذا النوع، بكثافتها الشديدة، وبما أنها، نظرًا لفرادتها واختلافها عن كل ما سبق، إغلاق لمرحلة طويلة سابقة وافتتاح لأخرى قادمة، لا بد وأن تتسم أيضًا بالفوضى والدموية والغموض وانعدام اليقين، وهذه بعض العناصر التي توفر لها سمة أخرى وهي الاستعصاء على الترويض، وعجز الفاعلين التقليديين عن الإحاطة بها واحتوائها وإخضاعها لأدوات التحكم والضبط والسيطرة، بالرغم من امتلاكهم أدوارًا أساسية واحتكارهم أدوات تقليدية تدافع بشراسة للإمساك بناصية هذه اللحظة، وتشكيل المستقبل على صورتهم.
لم ينجح الفاعلون التقليديون، ورغم مرور خمس سنوات على هذه اللحظة، في حسمها لصالح أي منهم، وما كان قد بدا ضربة قاضية سددتها بعض قوى الفاعلين التقليديين، كما في أشكال الثورة المضادة المتعددة: الانقلاب في مصر، الثورة الملونة في تونس، الالتفاف على الثورة في اليمن، الهجوم المضاد على الثورة في ليبيا، مطاردة الحركة الإسلامية كيفما كانت وحيثما كانات، ظهر أنه لم يكن أكثر من لكمات قوية لكن ارتداداتها كانت فوق طاقة ووعي الفاعلين، وفي اتجاهات لم توفر لهم الحسم المطلوب، أو لم تأت بالنتائج المرجوة، أو ذهبت في مسارات معاكسة تمامًا، وهكذا هو دور الإنسان على أية حال في نهر التاريخ الدافق، يمكنه أن يفعل لكنه أبدًا ومهما أوتي من أدوات التخطيط والضبط لا يمكنه أن يضمن نتائج فعله، والوعي بهذه الحقيقة هو ما ينبغي يميز في الأساس الفاعلين المنطلقين من مفهوم القيام بالواجب وضرورة استمرار المهمة والمكابدة في سبيلها، دون أن يعني ذلك أبدًا الكفّ عن إحسان التخطيط والأداء والمثابرة في الإتقان.
الفوضى والدموية وانعدام اليقين، بالإضافة إلى الضربات التي سددها الفاعلون التقليديون، جانب من الصورة، لكن ما هو أوضح في الصورة حين النظر إلى اللحظة الراهنة بعين تاريخية قادرة على مسح الزمن الماضي وملاحظة السمات المميزة التي تمنح هذه اللحظة فرادتها ومعنى خاص يحفل بالدلالات على التحولات الكبرى؛ هو البوابات الضخمة التي تنفتح للفاعلين غير التقليديين: الجماهير، والحركات، والكيانات غير الدولاتية، وقد انفتحت هذه اللحظة في الأساس بهؤلاء: الجماهير في تونس ثم في مصر واليمن وليبيا وسوريا والعراق، دون أن يزاحمهم في الافتتاح أحد، إلى أن انقض الفاعلون التقليديون لمحاولة استعادة الدور وضبط المشهد حتى بدا لوهلة أنهم استفردوا بالدور، بيد أن هذا الانطباع مضلل بدليل استمرار العجز عن الاحتواء والسيطرة، وغرق بعضهم في بعض أماكن اللحظة كما في اليمن وسوريا، وانحطاط النتائج واستمرارها في الانهيار كما في مصر.
يدل ذلك في جانب منه على تراجع النظام الدولي بدوله الكبرى، بمعنى تراجع أدوات الضبط والسيطرة على المستوى العالمي، وفي جانب منه يأتي كنتيجة لانكشاف الدولة القطرية العربية وانهيارها أو انحطاطها، وبالتالي انهيار الجدران أو اتساع الثغرات التي فيها، وهكذا انهيارات لا بد وأن تصطحب معها الألم والمرارات، إلا أن ذلك هو الثمن الذي لا مناص من دفعه للعبور إلى منصة الفاعلين الكبار، وهكذا يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ولولا ذلك لظلّ الطغاة والمجرمون يتسيّدون أماكنهم، ولظلّ المستعضفون مفعولاً به أبديًا في موقع الذل والعبودية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى في العقود الأخيرة التي يظهر فيها دور أساسي للفاعلين غير التقليديين، إذ يمكن اعتبار الثورة الفلسطينية في كل من الأردن ولبنان في سبعينيات القرن الماضي، والجهاد الأفغاني، والثورة الإيرانية، وكلها أحداث ضخمة متقاربة زمنيًا ومتأثرة ببعضها، داخل مفهوم الفاعلين غير التقليديين، لكن بعضها لم يكن بمعزل عن دور الفاعلين التقليديين، فلم تتمكن الثورة الفلسطينية وتتسع إلا بدور من الفاعلين التقليديين، من بعد هزيمة النظام العربي في حرب العام 1967 وبالتالي رفع قيوده عن الحركة الفلسطينية الفدائية، وبعد ذلك اتفاق القاهرة في العام 1969 الذي نظّم الوجود الفلسطيني في لبنان، ولم يكن الجهاد الأفغاني إلا واحدًا من تعبيرات صراع اللاعبين التقليديين، كما أن تلك الأحداث كلها، وإن مهّد بعضها لتغير في المشهد الإقليمي أو الدولي، لم تأت في سياق انهيارات واسعة وشاملة تكاد تغطي الرقعة العربية كلها، وتجرّ إليها الإقليم والعالم، ويمكن اليوم النظر إلى سوريا كثقب أسود يتمتع بجاذبية هائلة، ويبحث جميع اللاعبين التقليديين اليوم عن مكان لهم فيه، كما ظهر أخيرًا لدى كل من بريطانيا وفرنسا.
في عالمنا العربي، كانت دائمًا هناك انهيارات وأحداث كبرى وظهور أدوار لفاعلين غير تقليديين، بسبب من الاستعمار، وبنية الدولة القطرية، وطبيعة الأنظمة، واستمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وحرمان العرب والمسلمين من تطوير نموذجهم الخاص، لكنها لم تكن أبدًا بهذا القدر والسعة والشمول والعمق والأهمية البالغة للجماهير والتشكيلات غير الدولاتية، الأمر الذي يعني أن هذه اللحظة هي أعظم وأفضل فرصة للتغيير منذ مئة عام، أي منذ انكشاف الاستعمار عن الدولة القطرية العربية، وإفرازها النخب التي استمرت تتحكم في مصائر العرب وتضمن التصاقهم بقاع الانحطاط والمفعولية.
فالوجه الآخر للآلام والمرارات هي هذه الفرصة، ولأن الفرصة تتسع لتغطي المجال العربي كله تقريبًا وتجذب الإقليم والعالم، فإنها تنطوي على إمكانيات عظيمة للتبادل والتعاون، وبالمعنى الذي يستدعي قوله تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ”، وقوله: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ”، وهذا المعنى أكثر ما يتضح اليوم في سوريا، في أشكال مختلفة من الولاءات تتدافع على الأرض السورية، وتكثفّ فيها العالم كله تقريبًا.
لكن الاستفادة من هذه اللحظة، تتطلب العمل بالأدوات التي تناسبها، وهذا يتطلب بدوره جرأة كبيرة على المغامرة، والتخلي عن أدوات سابقة لها ظروفها المفارقة للظرف الراهن، ومن هنا ينبع السؤال حول فاعل يفترض أنه بحجمه العالمي من أكبر الفاعلين غير التقليديين، أي جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت ولا زالت، من بعد انبجاس الثورات العربية، محل استهداف الفاعلين التقليديين بولاءاتهم المختلفة واصطفافاتهم المتنافرة، إن كانت قد أدركت طبيعة اللحظة ومتطلباتها، والممكنات التي تتيحها، والقدرة على التصرف كجسد واحد على مستوى العالم والإقليم.
الإجابة لا تبدو مشجعة. صحيح أن الإخوان المسلمين تحالفوا في مراحل تاريخية معينة مع بعض السُلطات، والتزموا الدولة وسقفها وشروطها، وبدا كأن أقصى طموحاتهم الاعتراف بهم داخل الدولة، لكنهم ظلوا دائمًا تيارًا اجتماعيًا عميقًا وكبيرًا وخارج بنية الدولة من الناحية الفعلية، ونظروا إلى أنفسهم كتيار أكبر من الدولة، وبطموحات تتجاوز مخلفات الاستعمار ونظام التجزئة العربي، لكنهم لم يستطيعوا العمل في لحظة مخالفة لما اعتادوا عليه، أي لحظة الانهيار والسيولة، والتي تتطلب أدوات لا تستظل بسقف الدول ولا تنهض على أرضيتها، كما لا تستظل بسقف النظام الدولي ولا تنهض على أرضيته، ولا تعنى بالضرورة بإرضائه وطلب إعجابه.
لو تصرف الإخوان المسلمون كجسد واحد فقط، مع عودة الاستعمار إلى منطقتنا بشكل جديد، وتخلّق ولاءات متعددة، كلها بشكل أو بآخر، اتخذت موقف الثورة المضادة، والعداء للحركة الإسلامية، لوجدوا مثلاً في سوريا فرصة مواتية متجاوزة لما اعتداوا عليه، ومع ذلك فإن الإخوان السوريين تأخروا في بناء التشكيلات المسلحة التابعة لهم، فضلاً عن كون الإخوان عمومًا التزموا الحدود القطرية ولم يبحثوا عن دورهم كجسد واحد متجاوز لهذه القطرية في منطقة بالغة الأهمية من الناحية الجيوسياسية، وتحاذي الكيان الصهيوني، وتفتح ممكنات كبيرة لجذب عشرات الآلاف في قضية محل إجماع وهي مواجهة العدو الصهيوني، بالإضافة إلى ضمانهم موقعًا مهمًا يمنحهم نفوذًا إستراتيجيًا وتفاوضيًا إقليميًا وعالميًا.
على خلاف ذلك يغرق الإخوان في قطريتهم، في الوقت الذي يحاربهم فيه العالم بدعوى عالميتهم، ثم ينقسمون على أنفسهم داخل أقطارهم، ويحار المتابع متسائلًا على أي شيء يختلفون كما في الأردن، بينما وبدلاً من أن يبحث الإخوان المصريون عن فرص مواتية، وبناء كيانات فاعلة على مستوى الإقليم بعد هجرة العديد من كوادرهم، تجدهم عادوا للانقسام على أنفسهم حول موضوعات السلمية والعنف، وشرعية كياناتهم الإدارية والقيادية، ومواقع النفوذ في مؤسساتهم، فلا هم في موقع الفاعل التقليدي ولا في موقع الفاعل غير التقليدي، ثم يحار المرء مرة أخرى، على أي شيء يخافون وماذا بقي كي يخسروه؟!