لماذا يصرّون على مواصلة إهانة العسكرية المصرية، بإغراق الجيش في تجارة اللحوم والخضروات المجمدة؟
لماذا يستمرون في خدش صورتها، بإرسال الجنود والضباط في عربات متنقلة، تبيع السلع للناس في القرى والمدن؟
في أي دولة في العالم يتحول الجيش إلى بائع خضار، أو موزع لحوم، أو منافس للشركات والأفراد في تنظيم حفلات الزواج؟
أذكر أنني كنت ومجموعة من الزملاء الصحفيين والإعلاميين المصريين في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، نهايات العام 2012، حين أصيب المارة في شوارع العاصمة بالوجوم والصدمة، عند مرور مدرعة عسكرية الشوارع؛ حيث وقف المواطنون يلتقطون صورًا لهذا الكائن العجيب الذي يمرق في الشوارع ليلًا.
قال لنا مرافقنا، وقتها، إن هذا حدث تاريخي؛ لأن هناك أجيالًا كاملة في الدنمارك لم تشاهد آلية عسكريةً، تحمل جنودًا، طوال عمرها، إلا في أفلام الحرب القديمة، لذا، فإن مشهد مرور مدرعة بين المدنيين، لا يتكرّر إلا كل عقود.
حين سألنا عن سبب عبور المدرعة والجنود، قالوا إنهم ينقلونها من نقطة عسكرية خارج العمران إلى نقطة أخرى في الطرف الآخر من البلد.
في العالم كله، الجيش مكانه المعسكرات خارج الحواري والأزقة، يندر أن ترى جنديًا أو ضابطًا في الشارع، بينما في مصر توجد العسكرية وتحضر، وتشتبك، حد الابتذال، في التفاصيل اليومية الصغيرة، من اللف بسيارات اللحوم والخضار، إلى مطاردة التلميذات والتلاميذ، إلى تشغيل الأغنيات الراقصة في الميادين، والتمايل عليها.
لو قلت إن هذا لا يليق بجيش بلدك، ستكون التهمة الجاهزة أنك خائن وحاقد وعميل وكاره لوطنك.
في العام 2010، أثرت قضية إهانة رجل المخابرات المشهور باسم جمعة الشوان، حين تركته الدولة نهبًا للمرض والفقر والحاجة، فانتفض المجتمع المدني، لجمع المبلغ المطلوب، لإنقاذ حياة هذا البطل.. ثم تفاعلت القوات المسلحة، وأعلنت تكفلها بعلاجه، فكتبت سطورًا في حب الجيش الوطني المحارب، من واقع صورته الناصعة في وجداننا.
أحد القراء الأعزاء فتش في أرشيفي، وأرسل إلي ما كتبته، قبل ثورة يناير بثلاثة أسابيع، معتبرًا إياه دليلًا على تناقضي وازدواجيتي في التعامل مع الجيش، أستسمحك في إعادة نشره:
كالعادة، تظل المؤسسة العسكرية هي الجهة الأكثر مصريةً، والأعمق إحساسًا برموز الوطنية المصرية، وفي طليعة الصفوف منهم البطل جمعة الشوان.
وبينما غابت أجهزة الدولة عن أزمة الشوان، حضرت المؤسسة العسكرية، كما تحضر دائمًا في مناسبات عديدة تكون الأجهزة الأخرى المعنية فيها، غارقة في مستنقعات التخبط والإهمال والنسيان والتجاهل.
وفي جملة واحدة، تظل هذه المؤسسة العريقة هي الحصن والحضن والمأوى، عندما يضيع الآخرون في متاهات البيروقراطية والانشغال بتوافه الأمور.
وعلى الرغم من نوبة الانتباه والتعاطف والالتفاف والاصطفاف، من أجل تبني قضية الشوان من شخصيات ورموز مصرية محترمة، في تجسد رائع لحضور المجتمع المدني، تعويضًا لغياب الدولة، فإن بادرة القوات المسلحة المصرية بإعلان تكفلها بنفقات علاج البطل المصري لها مذاق خاص ومدلولات أخرى.
وكانت اللقطات واللقاء الذي عرض، أمس، في قناة “أون تي في”، واليوم في “صباح دريم” لمندوب وزارة الدفاع، وهو يحتضن الشوان، ويسلمه قيمة نفقات علاجه، ويبلغه رسالة واضحة وناصعة بأن القوات المسلحة لا تنسى الأبطال الذين ساهموا في صناعة انتصارات هذا الشعب. كان ذلك مشهدًا عبقريًا أثار شجون المصريين، وحرّك الدموع في العيون، واستعاد الناس قبسًا من دفء ملاحم العمليات الخارقة للقوات المسلحة والمخابرات المصرية، والتي لقنت العدو الصهيوني دروسًا، لا تزال كالوخز في عظامه، حتى الآن.
ذلك ما كتبته قبل نحو ست سنوات، وذلك هو الجيش كما عرفناه، وكما أحببناه. لذا، لا تناقض أبدًا حين ينتابك حزن وأسى وأسف، وأنت ترى النظام الدموي الفاشل يجرّ الجيش إلى ما لا يليق به وبتاريخه.