السلطة تعرف خصومها، وتعرف كيف تدينهم، السلطة تعرف أيهم الفعال المؤثر، وأيهم “الهجاص” “الكلمنجي”، نجم الحوارات والشاشات، الذي يرضخ لشروطها من أول “قعدة”، وربما بتليفون، والسلطة تعرف من منهم على استعداد أن يتحمل تكلفة الغربة والتعقب وإغلاق الأبواب، والملاحقة الأمنية والتشويه والاتهام بالخيانة والعمالة، ويكمل في طريقه لا يأبه بكل ذلك، ومن منهم ديته برنامج يقدمه أو حتى يعده، أو يظهر ضيفًا فيه، وتبقى “اتعشت”، كما أن السلطة تعرف من منهم يدرك أبعاد المشكل الحقيقي، وطبيعة الصراع، ومن صاحب التنظيرات اللوذعية في الهواء الطلق، العائش في خيالاته المرضية عن دولته الخاصة، التي لا تختلف كثيرًا عن قهوته الخاصة، والقبول بالتنوع في إطار الشلة، وعن الرجعية التي هي كل من لا يشبهنا، وعن التقدمية التي هي “أنا” وخمسة من أصحابي، ربما يكمن عمق الدولة الحقيقي في كونها تعرفنا جيدًا، واحدًا واحدًا، أولًا وآخرًا، ولذلك لعبت وكسبت، على الأقل إلى الآن.
الإخوان فاعل حقيقي، ومؤثر، هم يعرفون ذلك، والإخوان لديهم جذور اجتماعية في الشارع، لكنهم محل رفض إقليمي ودولي. ليكن الإخوان فزاعة الخارج، وليكن تحويلهم إلى فزاعة الداخل جزءًا من المستهدف، ثم توصيف كل معارض أيًا كان موقعه الفكري أو السياسي بأنه إخوان، والإجهاز على الجميع، اللعبة سهلة، وتنفيذها جاء وفق خطوات كانت إلى حد كبير واضحة، إلا أن الدولة محظوظة بأغلب من يمارسون فعل الكشف عن سردياتها؛ حيث يأتي الضوء ملطخًا بالظلام فلا يميز الناظر بين الأبيض والأسود، هكذا كنا وإلى الآن نحاول أن نستمر، فيما يبدو “حراسة التبلد”.
إسماعيل الإسكندراني، زميلنا، صحفي وباحث، لا يقل عنا توترًا، وتشتتًا، وحنقًا، ذهب يمينًا ويسارًا ليتعلم، مارس ما أشرت إليه من تنظيرات لا شأن لها بشيء، ومارس غيرها، إلا أنه اقتطع مساحة من وعيه، ونضجه لمشروع يرتبط بالناس، وكتب عن أهل النوبة، وأسوان، سيناء، مياه النيل، جريمة تلوثها بمخلفات المصانع، تفاصيل، معلومات مدهشة، حقائق موجعة للعصابة التي تحكمنا، وصادمة للكثيرين منا، الذين يعيشون في مصر ضيوفا على عساكرها، اسماعيل فعل شيئا حقيقيا، سافر إلى أوروبا في استضافات علمية، إلى أميركا، إلى كل مكان طالته أحلامه، وطموحه في أن يصير شيئًا نافعًا، إسماعيل الإسكندراني مسمم بالرغبة في التغيير، “مسكون” إلى درجة عدم احتماله لرأي آخر يتصور أنه يحول دون ذلك، متطرف في استنارته، داعشي في دنيويته، ورجل.
كان في برلين، والدته مرضت، نزل إلى مصر، رغم المتوقع من التوقيف، مصر الآن مقبرة الصحفيين، لا صوت يعلو، فإن علا، وضعناه على قوائم الترقب، تهمته صحفي وباحث ناجح، لو كان مثل هؤلاء الذين يكتفون بتعتيق العدم، وتبريره، وتثويره بوصفه سبيل النقاء الثوري غير الموجه لفعل أي شيء سوى إدراك ذاته، لكان الآن في دفء غرفته بجوار أمه، ولسافر إلى كل بلاد الدنيا وتعلم كما تعلم، ودخل وخرج، دون مساءلة أو توقيف.
تخبرني الزميلة خديجة جعفر، زوجته، أنهم أخبروهم ليلة احتجازه أنه لا داعي “للشوشرة”، مجرد مناقشة، وبعض الأسئلة عن سفره المتعدد، وسيخرج، سيبيت الليلة في بيته، النظام يكذب كما يتنفس، ولا شرف لأي من أجهزته، بات في زنزانته، وفي اليوم التالي حولوه لنيابة أمن الدولة.
10 ساعات من التحقيق، خديجه ومعها الأهل، وقوف في الشارع، رفضوا أن يدخلوهم، والنتيجة، إسماعيل متهم بأنه إخوان، ليس ذلك فحسب، إسماعيل متهم بالترويج لأفكار جماعة الإخوان، أخيرًا: تحقيقات إسماعيل وأخباره هي الأخرى تهمة واضحة لا يستطيع “الباشا” أن يخفيها حنقًا، سموها نشر أخبار “كاذبة”!
إسماعيل ليس خصمًا للإخوان، إسماعيل “عدو”، لا يتفاهم، سليط اللسان، يشتمهم بكل ما تيسر له من القبح، يسميهم “طائفة الزومبي”، يبتكر الهاشتاجات لتفكيك كل ما يصل إلى ذرات عقله من أفكارهم، وتصوراتهم عن الدين والدنيا، يشتري عدواتهم كما يشتري خبزه اليومي، يتربص بهم بشكل لا يستوي حتى مع حسه الحقوقي، إسماعيل يكرههم، أو هكذا تقول كتاباته، والذين اتهموه طبعا يعرفون ذلك، يقرأونه، يرصدون صفحته، وإلا ما قبضوا عليه، ولا عاقبوه على ما نشره من أخبار تفضح فسادهم، إلا أن الاتهام بالأخونة لا يرتبط بكونك إخوان أم لا، إنما بموقعك “الحقيقي من النظام، ومن المعركة الدائرة الآن، معارض “حقيقي” أم “منظر”، النظام ليس غبيًا، وفي حالة إسماعيل، الشهادة جاءته من حاملي أختام المعركة، يقول أحدهم على فيس بوك: من لم يتهم حتى الآن بأنه إخوان فهو “معر*”!!
إسماعيل كتب أخيرًا عن الاصطفاف، قيمة مقاله كانت في نقله الفكرة من معسكر المؤمنين بها إلى دوائر العدم، واللافعل، والاستسلام لما هو قائم، والانتظار، ربما يفرم أحدهم الآخر فنلعب النهائي “على رواقة”، إسماعيل اخترق هذه المنطقة بشبكة علاقاته الممتدة، و”دلاله” على الجميع، و”منشن” كل من يعرفهم، ودفعهم إلى خطوط الاشتباك رغما عنهم، لتبدأ بعض الدوائر في التشكل داخل مياه راكدة يعيش أصحابها في عوالمهم الموازية.. إسماعيل الآن يدفع الثمن!!
كلنا عند النظام رجل واحد، 1+1=1، طالما أن هذا الـ1 يحلم، ويشرع في التنفيذ العملي، يمكنك أن تتحول إلى “إخوان” في خطوة واحدة، فقط عارض النظام بشكل “حقيقي”.. أما إذا أردت أن تتحول إلى معارض يسجل مواقفه على حائط المبكى، واضعًا بين كل كلمتين ضد النظام عشرة ضد الإخوان، خالصًا إلى أنه لولا الإخوان ما كانت “المصيبة” وأن كل شيء سوى الإخوان يهون، وهي النتيجة التي خلص إليها من قبل رفاق “التجمع” حين قارنوا في سبعينيات القرن الماضي بين خطر الإسلام السياسي وخطر إسرائيل، لينتهوا إلى أن الإسلام السياسي هو العدو الحقيقي، يبدو لي أن وعيًا جديدًا يتشكل، ويدفع ثمنه كل من تواريهم زنازين العساكر، سلام عليك يا إسماعيل، وعلى رفاقك الطيبين، وغدًا قريب.
للتواصل مع الكاتب عبر موقع فيس بوك:
https://www.facebook.com/mohamed.t.radwan