بسم الله الرحمن الرحيم
يوم آخر.. سريعاً أجمع أغراضى .. المصحف والمسبحة ، أحمد جمعة .. رفيق الكلابش ، تنطلق سيارة الترحيلات نحو سجن الليمان حيث باقى الصحبة فى القضية ، د/صلاح سلطان وأخى محمد صلاح سلطان و أ/عمر يوسف ، ننتظر أمام البوابة حتى قدومهم ، إرتسمت على وجهى إبتسامة حين تذكرت قدومى سابقا لهذا المكان ، فى الغرفة المجاورة للدكتور صلاح وأخى محمد فى مستشفى الليمان ، "هل رأيت شجرة المانجو التى زرعها الشهيد سيد قطب" سألنى دكتور/صلاح ، إنها تلك الشجرة قال دكتور/صلاح وهو يشير إلى شجرة المانجو ، أذكر يومها أنى سرت لأرى هذه الشجرة التى طالما سمعت عنها ، فى طريقى للشجرة .. أمشى ببطئ محدقا فى الأرض ، أبحث عن آثار أقدام الشهيد سيد قطب لعلى أضع قدمى على أثر قدمه ، "تري هل اسير على خطاه؟؟!" أسأل نفسى كما ، أمنى نفسي بجلسه فى ظلاله ، ماأروعها من ظلال ، أرفع كفى للسماء .. أدعوا الله أن يرحم صاحب الظلال.
– أجلس مع أصحابى فى عربة الترحيلات غير أن قلبى مازال محلقا فى أجواء سجن الليمان ، وحوله أربعة من الشباب ، إختارهم الله ليكونوا معه .. واختاره الله ليكون معهم ، عبدالله محمد مرسي .. إبن السيد الرئيس ، أخى محمد صلاح سلطان ، أنس محمد البلتاجى ..ابن البطل الجسور د/محمد البلتاجى ، عبدالرحمن القعيد .. أحد أبطال أسرة القعيد المجاهدة . يربيهم ، يعلمهم ، يحنوا عليهم ، يعدهم الله لمستقبل يتم بناؤه الآن فى غياهب هذا السجن ، "دول ولادى الأربعة" يقول د/صلاح مبتسما وهو ينقل لنا سلامهم وأخبارهم فى عربة الترحيلات التى وصلت للتو مقر المحكمة .
– ندخل القفص الزجاجى ، نلقى الأحبة ؛؛ لحظات الإخوة الصادقة والصفاء الروحى والسمو الإيمانى يرتفع منسوبها فى هذا القفص ، حب فى الله لو علمه الملوك لجالدونا عليه ، كيف لا وهو من صنع الله (لو أنفقت مافى الأرض جميعا ماألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)..تبدأ الجلسة .. يتكلم القاضى .. لا نسمع .. يصر على الإستمرار فى المحاكمة رغم عدم سماعنا .. نشير له لعله يرانا .. يتجاهلنا .. فنتجاهله ..
الحر يعرف ماتريد المحكمة ** وقضاته سلفا قد ارتشفوا دمه
رددتها مع امي كثيرا وأنا صغير ، لكنى لم أفهم معناها إلا الآن ، هذا القاضى وحده قد ارتشف دماء المئات منا ، ويل لقاضى الأرض من قاضى السماء.
– نشرع فى إعداد الطعام الذى أحضرناه صباحا .. نلتف جميعا حول إخوان سجن العقرب .. نطعمهم بأيدينا .. يرفع الدكتور/أحمد عارف قطعة هزيلة من الدجاج قائلا "هذه وجبة كاملة في سجن العقرب" نضحك جميعا .. أقول له "الإعلام يصورنا الآن ونحن نأكل" يرد ضاحكا .. ياسيدى .. ضربوا الأعور على عينه .. نضحك جميعا .. نقدم المزيد لإخوان سجن العقرب ..يأكلون ..تزداد سعادتنا.
– إخوان سجن العقرب يمارس عليهم الإنقلابيون أقسى أنواع التعذيب النفسي والبدنى ، ممنوعون منذ شهور من تناول الطعام إلا القليل من طعام سجنهم البغيض ، طعام تأبى قطط السجن أن تأكله لسوءه وردائته ، يزداد الأكل سوء إمعانا فى الإيذاء والتعذيب ، كل إخوان سجن العقرب هزلت أجسادهم لقلة الطعام .. إلا أن أرواحهم وعزائمهم تطاول عنان السماء ، لا تفارق البسمة وجوههم ، تري نور الإيمان يغشاهم ، نظرات عيونهم لها بريق يحرق نفوس سجانيهم ..،
أكل إخواننا .. حتى شبعنا
– جلست فى آخر صف من القفص الأول لأكون قريب من إخوانى بالقفص الثانى ، إقترب منى أخي وأستاذي أ/كارم رضوان _رفيق كلابش الأستاذ المرشد_ بابتسامته المعهودة قائلا "خالد الأزهري بيسلم عليك وبيقولك عزومة الشاورمة الجاية عندك" إنطلقت منى ضحكة عالية .. ماأروعها من ذكريات ، عندما ينتهى أ/خالد الأزهرى من أى حلقة فى مدينة الإنتاج الإعلامى يمر على فى القناة .. ننطلق إلى مطعم معين .. نتبادل الهموم .. نتبادل الحلول .. نتبادل الأمل .. ونتبادل ساندوتشات الشاورما …
سألت الأستاذ كارم عن حاله فى السجن فأجابنى "هو الأخ الحنون" يقوم على خدمة الجميع ، خاصة المستشار الجليل محمود الخضيري .. عندما تفتح الزنازين صباحا يتوجه إلى زنزانة المستشار الخضيرى _ ذلك الرجل الذى قل نظيره وعجز القضاة أن يكون منهم مثله ، الرجل جاوز السابعة والسبعين من عمره ، ضعف بصره حتى لا يكاد يرى ، ينظف خالد _الوزير _ غرفته ..يمسحها يعد له الطعام ويضعه على مقربة منه .. يحلق له شعره .. يهذب لحيته ، أ/خالد هو إبنه الذي لم تلده زوجته ، يأخذ خالد بيده ليمشيا سويا فى ممر العنبر، المستشار الخضيري يحبه ، دائم الدعاء له ، فى نفسي غبطت خالد الأزهرى على دعاء مثل هذا الرجل الصالح له.
يكمل أ/كارم " من أول يوم لاعتقال المستشار الخضيري معنا لا يخرج الأستاذ المرشد للتريض إلا بعد أن يعد كوب من الشاي المظبوط ..يوميا .. يتوجه به لزنزانة المستشار الخضيري .. يسلم عليه .. يطمئن على حاله .. يدعوا له ".
سألت أ/كارم "كيف هو المستشار الخضيري فى السجن ؟؟!" فأجابنى " هو ثابت كالجبال .. صامد .. قوى .. ثابت .. محتسب ، على قلبه سكينة من الله ، من يومين قال لى بلغ إخوانك أن الضربة التى لا تقضى على الإخوان المسلمين تزيدهم قوة وصلابة ، مايتم الآن لن يقضي على هذه الدعوة المباركة مطلقا ، سيعود الإخوان بإذن اله أقوى وأشد مما كانوا عليه ، قلت للأستاذ /كارم سأتكف بإبلاغ هذه الرسالة عن المستشار الخضيري.
بالطبع لا يمكن أن يمر على أن أسأل أ/كارم عن الأيام الأولى والأيام الأخيرة للدكتور/هشام قنديل _رئيس الوزراء_ معهم فى سجن الملحق ، سألته فابتسم ابتسامة صافية كقلبه الصافى وقال بعد القبض على الدكتور/هشام وإيداعه معنا سجن الملحق .. مررت عليه فى زنزانته ، ولم يكن معه إلا ملابس السجن .. اللحظات الأولى فى السجن هى الأصعب على الإطلاق خاصة وأن هذه هى التجربة الأولى له ف السجن .. إلتففنا حوله .. د/بديع والأسد حازم صلاح أبواسماعيل و أ/أبوالعلا ماضى و د/باسم عودة و أ/خالد الأزهرى .. أعددنا له شنطة بها كافة أغراضه ، تحدثنا ، سمعناه .. إنطلقت ضحكاتنا تملئ السجن كان باسم عودة و خالد الأزهرى هما الأقرب إليه لعملهما مع كوزيرين ،
شاركنا الطعام والشراب والسمر والثبات والصمود .. شاركنا الصيام والقيام والدعاء والخشوع والدموع .. صرنا منه وصار منا ، سكت ا/ كارم للحظات وخفض بصره للأرض وأكمل بصوت خافت : "إتصل د/هشام بأهلى بعد خروجه مباشرة .. قال لهم قطعا .. أنا لن أكون فى عظمة أبيكم .. لكن أرجوكم إعتبرونى مكانه حتى يخرج إليكم سالما بإذن الله"
سرت فى جسدى قشعريرة من كلام الرجل .. سادت لحظات من الصمت لم يقطعها سوى صوت حاجب المحكمة الصارخ "رفعت الجلسة"
– أقمنا الصلاة .. إصطففنا خلف الأستاذ المرشد ..فور إنتهاء صلاة العصر وقف الأستاذ المرشد لنتلقى منه زادنا كلماته عميقة ، معانيه مؤثرة ، تنساب كلماته بسهولة ، تتغلل فى نفوسنا بالسهولة نفسها ، تحفر فى قلوبنا .. فإذا مارجعنا من الجلسة حضرنا الأوراق بما نفتش فى القلوب .. لينقل إلى الأحباب ، قال الأستاذ :- أنتم فى مهمة .. إختاركم الله سبحانه وتعالى لتعيشوها ، مهمة ربانية ، إياكم أن يأخذكم الشيطان منها ، نريد أن نعيش الجنة بالعيش فى معية الله .. تماما كما فعل حارثة .. عاش الجنة فقال (وكأنى أرى أهل الجنة فى الجنة يتنعمون .. وأري أهل النار فى النار يتضاعفون) ,,
ياورثة أيوب ..لن يترككم الشيطان ..إستعيذوا بالله .. جنتكم هى معية الله فعيشوا فيها .."قل بفضل الله وبرحمته بذلك فليفرحوا" إشغلوا أنفسكم بمحنة الله فى الماضي والحاضر، الإنسان أسير لحظته .. إخرج من ضغط اللحظة التى يريد الشيطان أسرك فيها .
– العبارة الأخيرة للأستاذ وقعت فى نفسي موقع عظيم .. الآن فقط عرفت كيف واجه الأستاذ المرشد أحكام الإعدام والسجن دون ان تهتز له شعره .. لم يقع _بفضل الله_ فى أسر تلك اللحظة.
– أجلت الجلسة .. رجعنا إلى السجن بعد وداع حار للأحباب ، أخذت قسطا من الراحة ، إستلمت ورقة وقلم وكتبت "يوم ىخر .. سريعا أجمع أغراضى .. المصحف والمسبحة ، أحمد جمعة .. رفيق الكلابش" ..
قبل أن أنهي لابد من توضيح أمر هام للغاية …
من يقرأ هذا الخطاب والخطاب السابق له قد يتبادر إلى ذهنه أنى أتحدث عن ملائكة .. أو أننا نعيش حياة الملائكة ، قطعا ليس الأمر كذلك ، ماكنا ملائكة ولن نكون ، نحن ككل البشر فى المحن غير أن هذه المحنة أظهرت أحسن مافى نفوسنا ، فى بعض الأوقات / اللحظات .. يأخذنا الحنين لأهلنا وأصدقائنا .. يصبنا الضيق .. نشعر بوحشة السجن ، نبكى ونضحك .. نحزن ونمرح .. نشتاق إلى الحرية ، غير أنها تظل لحظات نفر من اسرها إلى شهور من الصبر والثبات والصمود ، رحمات الله تغمرنا .. ينزل الله سكينة على قلوبنا ، نسأل الله أن يفك أسرنا وأسر أوطاننا ، نفكر فى الغد المشرق ، تمتلئ عيوننا بالبهجة ، وأتيقن من نصر الله وأتيقن من انكسار القيد ، بإذن الله .. ستمر هذه المحنة .. ستبحر سفينتنا مرة أخري .. لكن يومها لن يكون هناك مكان للطغاة والقتلة والإنقلابيين ، يومها سندعوا كما دعا الأستاذ المرشد فى آخر كلمته ..
ذهب السجن .. وابتلت العروق .. وثبت الأجر إن شاء الله.