ولئن نجح ذلك الاستعمار المجرم في مرحلة فلن ينجح في بقية المراحل، ولئن حقق تقدما في بلد مؤقتا فلن ينجح في بقية البلدان. وما نتابعه اليوم أن القوى الانقلابية لا تتوقف عن محاولاتها المستميتة لهدم التجربة الديمقراطية وإرباك المشهد السياسي والعودة بالبلاد إلى نقطة الصفر، لكن قوى البناء والديمقراطية بشتى توجهاتها الإسلامية والعلمانية وفي مقدمتها الترويكا الحاكمة (حركة النهضة – المؤتمر من أجل الجمهورية – التكتل الديمقراطي) تفوت عليها الفرصة كل مرة وتضعها في مأزق جماهيري ينقص من شعبيتها ويهدد مستقبلها السياسي بالانقراض.
وقد مثلت عمليات العنف المدبرة التي شهدتها تونس يوم 23 أكتوبر الجاري (الذكري الثانية لأول انتخابات حرة في تاريخ البلاد) والتي قتل فيها 8 من عناصر الأمن مثلت فرصة جديدة للانقلابيين الذين يتوقون لاستنساخ ما فعله الانقلابيون في مصر، لكن القوى الديمقراطية وفي القلب منها حركة النهضة بزعامة مؤسسها راشد الغنوشي تدرك الفخ جيدا، فقد باتت مثل تلك التفجيرات التي تشهدها تونس بين الحين والآخر هي كلمة السر لما يسمي "جبهة الإنقاذ" لإحداث الفوضى بالبلاد لكن قوى الديمقراطية (الترويكا الحاكمة) والأطراف الراعية للحوار والمؤيدة له (الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين) فوتت عليها الفرصة بذكاء، وحافظت على كل المكتسبات الديمقراطية ولم تجد غضاضة من تقديم بعض التنازلات.
فبعد أحداث 23 أكتوبر الجاري الإرهابية علت مزايدة ما يسمي بـ"جبهة الإنقاذ" مطالبة باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة محايدة تتولى الإشراف على الانتخابات القادمة في محاولة تعجيزية للقوى الديمقراطية، ولكن الترويكا الحاكمة وافقت على ذلك شريطة عدم القضاء على ما تحقق من المسار الديمقراطي، أي المضي قدما في استكمال الدستور والهيئة العليا للانتخابات والمصادقة على قانون الانتخابات. وقد مثلت موافقة حركة النهضة على استقالة الحكومة مفاجأة للانقلابيين فلم تجد بدا من العودة إلى الحوار الوطني.
وكان الغنوشي زعيم حركة النهضة قد قال صراحة إن حركته تفضل الخروج من السلطة ليعاد انتخابها من جديد على الصدام الذي قد يذهب بالتجربة إلى ما لا يعلم أحد نهايته ونتيجته.
وهكذا تفشل جبهة الإنقاذ الانقلابية في تونس المرة تلو المرة في إسقاط البلاد في دوامة الفوضى من جهة وفي استعداء الجيش التونسي على المسار التونسي من جهة أخرى، وهو ما يمثل فشلا ذريعا في استنساخ النموذج المصري، وذلك راجع إلى:
أولا- وعي الشعب التونسي العظيم وإدراكه لما يجري في المنطقة حوله من مؤامرات لإفشال ثورات الربيع العربي وإسقاط شعوبها في دوامة صراعات مدمرة، ومثال الانقلاب العسكري في مصر واضح لكل ذي عينين.
ثانيا- إدراك الشعب التونسي أن شعارات جبهة الإنقاذ في مصر البراقة التي مهدت للانقلاب العسكري في مصر ثبت عكسها، إذ أسقط مصر في قبضة العسكر والقوى الليبرالية التي انكشف عداؤها للديمقراطية.
ثالثا- تماسك قوى التحالف الديمقراطي (الترويكا الحاكمة) ومعها كل القوى الإسلامية والليبرالية الراغبة في مسار ديمقراطي حقيقي وفشل كل محاولات شق صفها.
رابعا- وعي الحركة الإسلامية المدرك لأبعاد ما يدبره المتربصون للإسلاميين في المنطقة وسعي كل القوي المناوئة لضرب التجربة الإسلامية ومحاولة استئصال الحركة الإسلامية.
وبعد ..
سيظل التاريخ يعلمنا أن الشعوب دائما هي المنتصرة وإن طال كفاحها وعظمت تضحياتها، وأن الانقلابيين والسماسرة وأزلام الاستعمار وعبيد الاستعباد مآلهم مزبلة التاريخ
.