شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

دعوة إلى إنشاء “متحف جرائم عسكر مصر”

دعوة إلى إنشاء “متحف جرائم عسكر مصر”
  تَمُرُّ كَثِيرٌ مِنْ دُوَلِ العالمِ بِتَجارِبَ مريرةٍ؛ يسقطُ خلالَهَا الكثيرُ مِنَ الأبرياءِ، ويروح...

 

تَمُرُّ كَثِيرٌ مِنْ دُوَلِ العالمِ بِتَجارِبَ مريرةٍ؛ يسقطُ خلالَهَا الكثيرُ مِنَ الأبرياءِ، ويروح ضحيّتها العديدُ مِنَ الشّرفاءِ. فِي الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ سقطَ نحوُ خمسينَ مليونَ قتيلٍ من مختلفِ الجنسيّاتِ، وشتّى الدّياناتِ. والملفتُ للنّظرِ هُوَ أنّ طبيعةَ البشرِ تعجزُ عن هضمِ مثلِ هذه الكوارثِ المخيفةِ، والفظائعِ الرّهيبةِ، بينَ يومٍ وليلةٍ.

فيذكرُ المؤرّخونَ مثلا أنّ يهودَ أمريكا لم  يتمكّنوا من اتّخاذِ موقفٍ فعّالٍ من جرائمِ هتلرَ، إلا بعدَ مرورِ نحو عقدينِ على انتهاءِ الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ، رأينا بعدَ ذلكَ آلافَ الكتبِ والدّراساتِ عن أهوالِ الحربِ العالميّةِ، ومعاناةِ اليهودِ، وغيرِ اليهودِ من فظائِعِهَا، وسرعانَ ما سمعنا عن حرصِ اليهودِ على توثيقِ جرائم هتلرَ، وحفرِ معاناةِ اليهودِ في الذاكرةِ الإنسانيّةِ. يقينًا أثارَ هذا السّلوكُ حفيظةَ بعضِ النّقّادِ من اليهودِ وغيرِ اليهودِ.

وأتذكّرُ مثلا أنّ المفكّرَ اليهوديّ نورمان فنكلشتاين هاجمَ ميلَ بعضِ اليهودِ إلى توظيفِ محرقةِ هتلرَ لابتزازِ الناس، وعرضَ وجهةَ نظرِهِ في كتابٍ بعنوانِ: "صناعة الهولوكست"، بيدَ أنّ الواقعَ الملموسَ يقولُ إنّ اليهودَ، بعكسِ العربِ والمسلمينَ، حريصونَ على تذكيرِ الإنسانيّةِ بمعاناتهم، بصرفِ النّظرِ عمّا يتسبّبونه هم في معاناةِ الغيرِ؛ فقد أسّسَ اليهودُ مُتحفًا في واشنطن بالولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ لتذكيرِ النّاسِ بجرائمِ النّازيّةِ، وضحايا هتلر من اليهودِ في الهولوكست. فقدّموا بذلكَ نموذجًا يمكنُ أنْ يحتذي الآخرونَ به، بل ينبغي على الفلسطينيّينَ الاقتداءُ به، والسّعى لتسجيلِ جرائمِ الصّهاينةِ في فلسطينَ وتوثيقها، مثلما وثّق اليهودُ جرائمَ هتلرَ.

من هنا أدعو جميعَ شرفاءِ مصرَ إلى البدءِ في التّفكيرِ في "مرحلةِ ما بعدَ العسكرِ". يقينًا التخلص من الدّولةِ العسكريّةِ البوليسيّةِ الدّيكتاتوريّةِ القمعيّةِ في مصرَ سيستغرقُ بعضَ الوقتِ، لأنّ المجرمينَ سوف يقاومونَ دحرَهم، ويتمسّكونَ بما نهبوه من ثرواتِ هذا الشّعبِ العظيمِ. وسوفَ يعارضونَ التّنازلَ عَنِ الامتيازاتِ الّتي جعلتْ من المؤسّسةِ العسكريّةِ دولةً داخلَ الدّولةِ، لقد طلقّ العسكرِ مِصْرَ الجنديّةَ بالثّلاثةِ، وتحوّلوا إلى المشروعاتِ الاقتصاديّةِ.

أصبحوا رجالَ أعمالٍ بزيّ عسكريّ، لقد صَاروا عارًا على الجيشِ المصريّ، وعلى الشّعبِ المصريّ، بل على الإنسانيّةِ جمعاءَ. إذ كيف يعقلُ أن يتركَ قادةُ الجيشِ المصريّ عملَهم الرّئيسيّ في حمايةِ أرضِ الوطنِ، ورفعِ درجاتِ الكفاءةِ القتاليّةِ، لكي يتفرّغوا لإدارةِ مشروعاتٍ اقتصاديّةٍ، من مصانعَ، وفنادقَ، ومستشفيّاتٍ؟ ليس يحدثُ هذا إلا في جمهوريّاتِ الموزِ والبطّيخِ.

حوّل مُجرمو عسكرِ مصرَ جيشَنا إلى جيشِ مكرونة، وعيش، وكركديه – وذلك من خلالِ المصانعِ والمزارعِ والأفرانِ الّتي أقامها العسكرُ، بدلا من إقامةِ مصانعَ للأسلحةِ والذخيرةِ. جنودُ الجيشِ أصبحوا عبيدًا يعملونَ مجانًا في مصانعِ قادةِ الجيشِ المصريّ، ومزارعهم، ولو حدثَ – لا قدّر اللّهُ – وشنّتْ إسرائيلُ حربًا على مصرَ اليومَ، لاستطاعتِ احتلالَ سيناءَ في دقائقَ، بدلا من ستّ ساعاتٍ كما حدث في ١٩٦٧م. وذلك لأنّ جنودَ جيشنا منشغلونَ الآنَ إمّا بقتلِ المتظاهرينَ، أو بزراعةِ الكركديه في مزارعِ قادةِ جيشنا البواسلِ.

جرائمُ عسكرِ مِصْرَ كثيرةٌ لا تُعدّ ولا تُحصى. قد يكونُ القتلُ بالرّصاصِ أهونها، لأنّ القتلَ إن تمّ بالرّصاصِ، فهو يحدثُ في لحظاتٍ، بعكسِ القتلِ البطيء، بالفقرِ أو المرضِ أو الجهلِ. وإن كانَ مجرمو عسكرِ مصرَ قد قتلوا آلافَ المصريّينَ بالرّصاصِ. فَإِنَّ ضحاياهم الآخرينَ قد بلغَ عددُهم تسعينَ  مليونَ ضحيّةٍ، ماتوا بالذّلِ، والمرضِ، والتّعذيبِ، والقهرِ، والنّهبِ، والتّضليلِ.

في المستقبلِ القريبِ حينَ يحتفلُ شعبُ مصرَ العظيمُ بإنهاء الدّولةِ البوليسيّةِ، العسكريّةِ، القمعيّةِ، الإجراميّةِ – سَيُدْرِكُ النّاسُ أنّ حقبةَ الحكمِ العسكريّ الغاشمِ الّذي استمرَّ أكثرَ من ستّة عقودٍ هِيَ الأسوأُ في تاريخِ مِصْرَ على الإطلاقِ، لم يحدثْ في تاريخِ مصرَ الطّويلِ أن قامَ جيشٌ مصريٌّ، وشرطةٌ مصريّةٌ، بتقتيلِ الشّعبِ المصريّ بالرّصاصِ الحيِّ، وإذلالِه، وقمعِه، وسجنِه، وتعذيبِه، إلا في عصرِ مجرمي عَسكرِ مصرَ منذُ انقلابهم الأسودِ سنةَ ١٩٥٢م. في عُصُورِ القدماءِ المصريّينَ كانَ الملوكُ الفراعنةُ يحكمونَ الشّعبَ المصريَّ؛ أمّا في عصرِ العسكرِ، فصارَ الوضعاءُ يحكمونَ الشّرفاءَ.

لم يحدثْ في تاريخِ مصرَ الطّويلِ أنْ حكمَ شعبَ مِصْرَ عصابةٌ من حملةِ الثّانوية العامّة ستّينَ عامًا بالتّمامِ والكمالِ. هذَا في الوقتِ الّذي صارَ لدينا اليومَ أعدادٌ هائلةٌ من العلماءِ المحترمينَ، والأساتذةِ الفاضلينَ، وأصحابِ العقولِ الرّاجحةِ، والقرائحِ الثّاقبةِ. فكيفَ يمكنُ أن نسمحَ لهؤلاء باستعبادِ النّخبِ والشّرفاءِ؟ وكيفَ يمكنُ أن يتمكّنَ حملةُ الثّانويةِ العامّةِ من التّحكّمِ في حملةِ الشّهاداتِ العليا؟ لقد دمّرَ مجرمُو عَسكرِ مِصْرَ قدراتِ بلدنا، وبدّدوا طاقاتِ شعبنا، ومصّوا دماءَ مواطنينا، وأهدورا ثرواتِ وطننا، بسببِ جهلهم الشّديدِ، وطمعهم الفظيعِ، وجشعهم الشّنيعِ، وغُشمهم المبينِ.

أدعو شعبَ مصرَ العظيمَ إلى التّخطيطِ لإنشاءِ متحفٍ كبيرٍ يوثّقُ لجرائمِ العسكرِ. التي أصبحتْ جزءًا لا يتجزأُ من تاريخِ مصرَ الحديثِ، فحقبةُ الحكمِ العسكريّ أفرزتْ لنا ثماذج مقزّزةً من قضاةٍ ظلمةٍ مجرمينَ، وإعلاميّينَ جهلةٍ مضلّلينَ، وسياسيّينَ انتهازيّينَ منافقينَ، وشرطةٍ متآمرةٍ مجرمةٍ، وموظّفينَ تنابلة طمّاعينَ، ورجالِ أعمالٍ جشعينَ. وأصابَ الفسادُ مختلفَ قطاعاتِ الشّعبِ المصريِّ. تفشّى النّفاقُ بينَ النّاسِ بصورةٍ مثيرةٍ للاشمئزازِ والاستنكافِ.

استشرتْ قيمُ التّخلّفِ، وانحصرتْ قيمُ التّقدّمِ. أصبحَ المصريّونَ الشّرفاءُ غرباء في وطنهم، بعدَ تفشّي الفسادِ والنّفاقِ والكذبِ. ويعتبرُ العسكرُ هم أصلُ جميعِ هذه المفاسدِ والشّرورِ. أدعو شرفاءَ المصريّينَ إلى الاهتمامِ بتوثيقِ هذه الحقبةِ السّوداءِ من تاريخِ مصرَ. "متحفُ جرائمِ عسكرِ مِصْرَ" ينبغي أن يكونَ من مشروعاتنا القوميّةِ المستقبليّةِ. ليس يجوزُ أن تقلَّ أهمّيّةُ هذا المتحفِ عن أهمّيّةِ سائرِ المتاحفِ المصريّةِ.

نُريدُ تأسيسَ متحفًا يزورُه أبناؤنا وأحفادُنا وأحفادُ أحفادِنا، ناهيكَ عَنِ السّيّاحِ الأجانبِ من العربِ والعجمِ، ليشاهدوا جميعَ جرائمِ عسكرِ مصرَ المجرمينَ موثّقةً بالصّورةِ والكلمةِ. نريدُ أن نُتيحَ لأحفادِنا أن يروا كيفَ ولماذَا ومتى قتلَ عبد النّاصر مفكّرًا مثل سيّد قطب. نريدُ أن نوثّقَ مجازرَ السّيسي في رابعةَ العدويةِ والنّهضةِ ورمسيسَ، لكي يراها الأحفادُ والسّيّاحُ، ويتّعظوا منها.

نريدُ أن يشاهدَ أحفادنا في هذا المتحفِ الحلمِ جرائمَ المجرمِ حسني مبارك، وكيفَ زجّ بآلافِ من المصريّينَ الأبرياءِ في السّجونِ والمعتقلاتِ، ليستشهدَ منهم من استُشهدَ، ويمرضَ منهم من مرضَ، نريدُ أن نوثّقَ جرائمَ المجلسِ العسكريّ في حقبةِ طنطاوي، والمجازرَ الإجراميّةَ الّتي ارتكبوها في حقّ شعبِنا.

ليسَ يجوزُ أن نهملَ جريمةً واحدةً من جرائمِ هذه العصابةِ المجرمةِ، دونَ أن نوثّقها، ونسجّلها، ليراها أحفادُنا وأحفادُ أحفادنا، ليتّعظوا، ويحتاطوا، مستحيلٌ أن نسمحَ بتكرارِ هذه الحقبةِ الإجراميّةِ السّوداءِ في تاريخِ مصرَ مرّة أخرى. لابدّ أن تكونَ رسالتنا للأبناءِ والأحفادِ: "احذروا من مجرمي العسكرِ. لا تسمحوا لمثلِ هؤلاءِ المجرمينَ أن يستعبدوكم، مثلما استعبدوا آباءَنا من قبلُ.

ولا تسمحوا لهم بتحويلِ مصرَ إلى سجنٍ كبيرٍ، وتحويلِ شعبِ مصرَ إلى شعبٍ من العبيدِ. نريدُ أن يحتوي هذا المتحفُ على تاريخٍ لكلّ ضحيّةٍ من ضَحايا مجرمي عَسكرِ مصرَ، ودولتهم البوليسيّةِ القمعيّةِ الإرهابيّةِ. كلّ مصريّ شهيدٍ، وكلّ مصريّ أصابوه بعاهةٍ مستديمةٍ، أو مرضٍ مؤلمٍ، أو كابوسٍ أسودَ، لابدّ أن يروي هذا المتحفُ قصّته ومأساته للأجيالِ القادمةِ، وللسّيّاحِ الأجانبِ.

نريدُ أن نتعلّم الدّرسَ، ونتّعظَ من التّجربةِ الأليمةِ. لقد تأخّرتْ ثورةُ الخامسِ والعشرينَ من ينايرَ ٢٠١١م ستّين عامًا. لأنّ نجاحَ انقلابِ عسكرِ مصرَ سنةَ ١٩٥٢م، الّذي مهّدَ لقيامِ الدّولةِ البوليسيّةِ القمعيّةِ الدّيكتاتوريّةِ في مصرَ، يعتبرُ عارًا في جبينِ المصريّينَ جميعًا، عارًا في جبينِ الآباءِ والأجدادِ الّذينَ سمحوا لعصابةِ العسكرِ بتأسيسِ أسوأ ديكتاتوريّةٍ عسكريّةٍ عرفتها مصرُ منذُ فجرِ التّاريخِ. ولذلكَ ينبغي أن نحرصَ على تدميرِ هذه الدّيكتاتوريّةِ الإجراميّةِ، ثمّ نؤسّسُ "متحفَ جرائمِ عسكرِ مِصْرَ"، ونلقّنُ الأجيالَ القادمةَ هذا الدّرسَ الأليمَ: "احذروا من مجرمي العسكرِ. إيّاكم أن تسمحوا بتكرارِ هذه التّجربةِ الأليمةِ".

"متحفُ جرائمِ عسكرِ مصرَ" يمكنُ أن يكونَ أكبرَ متحفٍ في مصرَ على الإطلاقِ، لأنّه سيؤرّخ لمئاتِ الآلافِ من المصريّينَ الأبرياءِ الّذينَ استشهدوا، أو عُذّبوا، أو أصيبوا بالعاهاتِ والأمراضِ. فهلمّ، يا شعبَ مصرَ العظيمَ، ندمّرُ أوّلًا هذه الدّولةَ القمعيّةَ المجرمةَ، ثمّ نخطّطُ معًا لبناءِ هذا المتحفِ-الحلمِ الّذي يوثّقُ كلّ جرائمِ العسكرِ المجرمينَ للأبناءِ والأحفادِ، للمصريّينَ والأجانبَ، والإنسانيّةِ جميعًا.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023