قال اللاجئ الفلسطيني والناشط في المجتمع المدني بغزة «محمد شهادة»، في مقاله بصحيفة «ميدل إيست آي»، إنّ أكثر من ثلثي السكان في قطاع غزة يعتمدون على وكالة «الأونروا» بشكل أساسي، وهي المسؤول الوحيد حاليًا عن رفاهية الشعب الفلسطيني وتعليمه وإطعامه؛ والفضل يعود إليها فيما أصبح عليه الآن، ومن قبله والده وجده؛ معبرًا عن قلقه على مستقبل أشقائه الصغار الذين ما زالوا يعتمدون عليها، وغيره آلاف الأطفال والطلاب الذين يتعلمون في مدارسها؛ خاصة وأنها السبيل الوحيد للتعليم والوصول إلى مستويات وظيفية معقولة.
وإلى نص المقال:
درستُ في مدارس الأونروا، ومن دون وكالة الأمم المتحدث لإغاثة اللاجئين وتشغيلهم، كنت سأغرق في مستنقعات الأمية واليأس. لكنها تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا، أخشى ألا يتحمل تبعاته أشقائي الأصغر سنًا.
في نوفمبر 1948، أُجبر جدي على الرحيل من قريته الصغرى في قطاع غزة المحاصر، وصودرت مزرعته التي كان يقتات منها، وهُدم منزله، وأخبرنا أنه لم يُعطَ سوى حفنة من المال تكاد تكفي مصاريف إيواء عائلته، المكونة من تسعة أفراد، وأخبروهم أن هذه الترتيبات مؤقتة؛ لكنه تحمّل محنًا لا توصف، وبالرغم من ذلك لم يتخلَ عن مفتاح منزله القديم على عنقه؛ على أمل العودة.
أحلام ونجاحات
منذ نكبة 1948 طُردت أسر فلسطينية من منازلها، وكانت الأونروا لهم بمثابة الأكسجين الذي يتنفسونه؛ وشرعت في التخفيف من معاناة السكان المضطهدين، وعملت على التخفيف من وطأة الفقر المدقع، وتطوير الأجيال القادمة؛ عبر مئات مدارس التدريب الابتدائية والمهنية، والمراكز الصحية؛ وكلها كانت خدمات مجانية.
كما درس والدي الراحل في هذه المدارس؛ ما مهّد له الطريق ليصبح طبيبًا بارعًا. وحتى قبل وفاته، دأب على زيارة معلميه في هذه المدارس؛ عرفانًا منه بجميلهم عليه وما تركوه من أثر على حياته، ومن دون مساعدتهم لبقي لاجئاً حافي القدمين موحلًا في مياه الصرف الصحي، معتمدًا على معونة الكفاف العارية التي تبقيه بالكاد على قيد الحياة.
ورثتُ عن والدي تقدير التعليم؛ فمنذ اليوم الأول في المدرسة كانت عيني مشرقة ومليئة بالإثارة؛ فأنا الآن على استعداد للدخول إلى المدرسة نفسها التي درس فيها والدي وفي الفصول نفسها. وربما حتى المقعد الخشبي القديم نفسه الذي كان يجلس عليه قبل ثلاثة عقود، وأخبرتُ والدتي حينها أنني يومًا ما سأكون ناجحًا في حياتي العملية.
وبالنسبة لأسرتنا، كانت مدارس الأونروا أفضل من المدارس الخاصة، التي عانت هي الأخرى من نقص التمويل، وحرص معلمو الأونروا على إثراء معارفنا كتلاميذ عبر مجموعة متنوعة من الأنشطة، سواء الشعر أو مسابقات القصص أو استخلاص الدروس أو التمارين الصباحية والرحلات الميدانية والبرامج التعليمية الإلكترونية، وغيرها؛ ما كان أشبه بسباق للتعلم، لم يتخلف فيه أحد عن الركب. كما وفّرت الوكالة التعليم المجاني للجميع وفرصًا متساوية، ولم تفرّق بين طلاب الأسر الغنية والفقيرة أو الطبقات الوسطى، حتى أولئك الذين كانوا يعانون من فقر مدقع؛ فقد كان مُرحّبًا بالجميع.
وتمكنت الأونروا لسنوات من تقديم وجبات يومية للطلاب، بما في ذلك المعجنات المنزلية والفواكه والحليب؛ حتى إنّ معظمنا كان يوفّر من هذه الوجبات ليشاركها أسرته الجائعة، كما قدمت لنا أونروا التطعيمات المجانية، وأجرت فحوصًا طبية دورية، ووفرت نظارات طبية مجانية، ومنحنا الزي الرسمي، بجانب المعونات والهدايا للأيتام والأطفال الأكثر فقرا حتى لا يشعروا بالعار.
عائلتي الثانية
عندما توفي والدي جاء طاقم المدرسة بأكمله وطلابها إلى جنازته، كانوا عائلتي الثانية؛ منحونا يدًا سخية للتغلب على التحديات التي خلّفها الحصار الإسرائيلي على غزة، وتمكنوا من إزالة العقبات من طريقنا، وأحلامنا ازدهرت بفضلهم.
كما ساهم هذا في المرونة التي يتمتع بها سكان غزة، إلى جانب البيئة المشجعة، والحرص على زيادة معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، إلى أكثر من 96%، واستثمرت الأونروا في مستقبل غزة دون أن تتعرض إلى هويتها وثاقفتها وماضيها.
وأثناء الهجمات الأخيرة الثلاث التي قادتها «إسرائيل» على غزة، آوت الأونروا النازحين في مدارسها، وساعدت آلافًا منهم بعد ذلك على دفع إيجارات منازلهم المستأجرة أو حتى إعادة بناء منازلهم المهدمة، كما سعت إلى التخفيف من صدمات الأطفال؛ عبر مخيمات صيفية عمل فيها آلاف الشباب المحتاجون إلى فرص عمل.
وتلت غزة على مدار السنوات الماضية ضربات متعددة أصابت هياكلها الاقتصادية والاجتماعية، وهددها خطر الانهيار المجتمعي إلى حدٍ كبير، كما دمرت مستويات المعيشة وعرضت الاقتصاد لمواقف أشد خطرًا، بما في ذلك القضاء على القطاع الخاص والأعداد المتزايدة للبطالة؛ فالخريجون بالكاد يحلمون بإيجاد وظيفة، بينما تعاني معظم الأسر الباقية من انعدام الأمن الغذائي الشديد.
في الواقع، كان موظفو الأونروا الوحيدين القادرين على الشراء والتسوق، وحافظوا على الحد الأدنى من قوة غزة الشرائية، وحافظوا بالكاد على الاقتصاد المدمر؛ فهم الوحيدون الذين يتلقون رواتبهم في ظل هذه الأوضاع.
ضغط احتلالي
في خضم حملة «إسرائيل» لنزع فتيل المنظمات غير الحكومية والعاملة في فلسطين، ومحاولات نزع الشرعية عنها، فالأونروا واحدة من المؤسسات القليلة القادرة على الوصول إلى أولئك الأشد فقرًا في قطاع غزة؛ إذ يعتمد 80% من سكانه على «معونة الكفاف»، وفي كل عام يتنافس عشرات الآلاف من الشباب على حفنة من الوظائف الشاغرة في الوكالة.
لكنّ كل هذا على وشك أن يُدمر؛ فالفرص التي استمتعتُ بها تقوّضها حاليًا الضغوط السياسية المتنامية في محاولة إغلاق الوكالة، ويتعين على المدارس الآن أن تعمل على نوبتين أو ثلاث في اليوم؛ خاصة وأنّ مخاطر باتت وشيكة بالفعل، فالمعلوم حاليًا أنهم غير آمنين على رفاههم الاقتصادي، ويعتقد معظم الطلاب أن مستقبلهم مظلم ومهدد، كما أن حافز التعليم لديهم آخذ في الهبوط.
والأونروا مسؤولة حاليًا عن أكثر من ثلثي قطاع غزة، البالغ عددهم مليوني نسمة، وتساعد برامج التعليم والصحة والرعاية والعمل وبرامج المعونة الملايين من اللاجئين المحرومين والمشردين على العثور على أنفسهم؛ وإذا اختفت فلن يتبقى لغالبية السكان ما يخسرونه، فقد خسروا كل شيء بالفعل.
لكنّ الفلسطينيين لن يتخلوا أبدًا عن الأونروا، ولن يستطيعوا؛ إلا إذا توفّرت لهم سبل الحياة الكريمة والكرامة والحق في تقرير المصير، فكرة نزع السلاح حاليًا ستؤدي إلى عواقب كارثية وطوفان من الاضطرابات الاجتماعية.