«تورّطت فرنسا في قضايا الشرق الأوسط قرونًا؛ بدءًا من الحروب الصليبية وحتى العالمية الثانية، وبعدها أفسحت المجال في المنطقة لتحالفات جديدة، سواء من العالم العربي أو خارجه، وأعطت الأولوية للعلاقات في مستعمراتها السابقة، مثل تونس؛ لحماية مجال نفوذها من التهديد العالمي للشيوعية، ما اعتبرته تحديًا «أنجلوأميركيًا» للتدخل في شؤون سياستها الخارجية المستقلة»، كما قال مركز «ستراتفور» الأميركي المعني بالدراسات الاستراتيجية والأمنية.
وأضاف، وفق ما ترجمت «شبكة رصد»، أنّه بعد هزيمة فرنسا في الجزائر عام 1962 أخذت مقعدًا خلفيًا في قائمة الدول المتدخلة في الشرق الوسط وتقودهم أميركا؛ لكنها تحاول اليوم تمهيد الطريق ثانية لغزو الشرق الأوسط، بتوجيهات من الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون، وتحاول فرنسا بكل السبل حاليًا أداء دور قيادي في قضايا الشرق الوسط؛ داعية إلى الاستقرار وضرورة نبذ الخلافات.
بداية جديدة
وفي إفريقيا، على سبيل المثال، تحاول فرنسا إعادة بناء ليبيا، البلد الممزق، منذ العام الماضي؛ إذ دعت إدارة «ماكرون» خليفة حفتر إلى المشاركة في مؤتمر عُقد بباريس في يوليو، لحلّ الصراع الدائم في ليبيا، وأدّت المحادثات إلى وعد بإجراء انتخابات في المستقبل، وتهدف إلى توحيد فصيل حفتر مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا.
وبالرغم من أنّ الانتخابات لم تُعقد بعد، هناك عقبات كثيرة ما زالت قائمة؛ لكنّ الاتفاق الذي أبرمه «ماكرون» يعد إنجازًا يحسب له في طريق فرض الاستقرار في ليبيا التي مزقتها الحرب.
براعة دبلوماسية
أظهر الرئيس الفرنسي براعته الدبلوماسية بعد بضعة أشهر من توليه منصبه في أكتوبر؛ عندما صدّقت الولايات المتحدة على الاتفاق النووي الإيراني وحذّر ماكرون واشنطن من اتخاذ مزيد من الإجراءات العقابية تجاه طهران، في الوقت الذي أبدت فيه واشنطن مخاوف من برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني.
وبالرغم من انزعاج فرنسا، فإنها تجنّبت التورط في التصعيد بين أميركا وإيران، واعترفت بدلًا من ذلك بمظالم كل جانب؛ في محاولة لتشجيع الطرفين على التوصل إلى حل بلوماسي. وفي نوفمبر، أدّت فرنسا دورًا ثانيًا كوسيط في نزاع إقليمي، في قضية استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من الرياض، التي ألمح فيها إلى تهديدات بالقتل من حزب الله؛ لكنه تبيّن فيما بعد أنّ الرياض أجبرته على ذلك.
ومن هذا المنطلق، سافر ماكرون إلى أبو ظبي ثم الرياض للضغط على المسؤولين الإماراتيين والسعوديين للسماح لسعد الحريري بالعودة إلى بيروت، ثم سحب الحريري استقالته واستأنف منصبه؛ بسبب جهود ماكرون.
المستعمرات السابقة
ثم شرعت فرنسا في تأسيس علاقات أعمق من ذلك في المنطقة، وعززت من علاقاتها مع مختلف الدول؛ ففي ديسمبر الماضي، زار ماكرون الجزائر، وشدّد على ضرورة تعزيز البلدين شراكتهما وبناء مستقبل جديد. وكانت فرنسا أكبر شريك تجاري للجزائر، وتنازلت عن هذا اللقب للصين في السنوات الأخيرة.
وتعدّ رحلة ماكرون إلى دول غرب إفريقيا جزءًا من محاولته تحسين علاقات فرنسا مع مستعمراتها السابقة على أمل إقامة علاقات أقوى وأعمق، وكان من المفترض في زيارة الجزائر أيضًا، أنّ يهدّئ ماكرون مخاوف الجزائر من العلاقات الفرنسية الناشئة مع المغرب، المنافس لها؛ وتحقيقًا لهذه الغاية، وضع الرئيس الفرنسي إكليلًا من الزهور على النصب التذكاري لمن قتلوا في الحرب الجزائرية، ووعد بأن تعيد بلاده الرفات الباقية للموجودين في فرنسا.
كما كانت زيارته إلى الجزائر فرصة لتوعية الجزائريين بضرورة البقاء في وطنهم وتنميته بدلًا من الانطلاق نحو الشواطئ الفرنسية.
تركيا ودول الخليج وإيران
وعلى مستوى تركيا، أكّدت فرنسا حفاظها على خطوط اتصال مفتوحة مع أنقرة للحفاظ على الاتفاق النقدي للاتحاد الأوروبي مع تركيا، وأكّد ماكرون للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّ بلاده ليست هدفًا للتآمر الأوروبي، وانضم إليه في إدانة القرار الأميركي في الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل».
ويبدو أنّ جهوده كُلّلت بالنجاح؛ إذ نجا اتفاق المهاجر والعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي رغم توترها. إضافة إلى ذلك، استضاف ماكرون رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في باريس عقب إعلان الرئيس دونالد ترامب وقدّم له العزاء والدعم الفرنسي.
ودعا عباس فرنسا إلى أداء دور قيادي جديد في السلام بعد إعلان الولايات المتحدة أنها عاجزة عن أيّ دور ريادي نزيه في محادثات السلام.
كما زار الرئيس الفرنسي قطر في وقت سابق من ديسمبر الماضي، بالرغم من الحصار المفروض عليها من الدول الخليجية المجاورة بقيادة السعودية، ووقّع ماكرون مع الدوحة صفقات بقيمة 12 مليار دولار، بما فيها اتفاق لبيع الأسلحة إلى قطر، ودعم اقترح الكويت للوساطة لإنهاء الخلاف الدبلوماسي بين دول مجلس التعاون الخليجي.
ولم تعزّز رحلة ماكرون مصالح فرنسا فقط؛ وإنما أيضًا التزامها بجلب الاستقرار إلى المنطقة وخارجها. وبعد وقت قصير من زيارته دول الخليج، أعلنت الإمارات والسعودية دعمهما للحملة الفرنسية لمكافحة الإرهاب، وضخت مائة مليون دولار للمساعدة.
لكنه بالرغم من جدول أعمال «ماكرون»، الساعي إلى جلب الاستقرار في المنطقة؛ ستواصل السعودية وإيران حربهما في المنطقة بالوكالة، ولبنان الهدف الرئيس لهذه الاستراتيجية؛ لأنّ الحليفين الجديدين السعودية و«إسرائيل» يعتبران حزب الله في لبنان يدًا لإيران ولا بد من تقويضها.