مقدمة
عرفت جماعة الإخوان المسلمين خلال تاريخها مبادرات وطروحات متعددة بهدف الإصلاح والتجديد على المستوى التنظيمي والفكري والسياسي، بعضها جاء بنتائج ساهمت في تطوير مسار الجماعة في حينها، فيما تحطم الآخر على صخرة الانشقاقات والخروج من التنظيم، وقد شكل الخط الزمني الممتد من ثورة يناير 2011، إلى انقلاب الثالث من يوليو 2013، وتبعاته الممتدة حتى اللحظة، مفصلاً تاريخياً في التحولات التي شهدتها جماعة الإخوان منذ نشأتها وحتى اليوم، وكان بديهياً في ظل هكذا تحولات أن تتولد روح الرغبة في الإصلاح والتقويم والمراجعات والتجديد، أكثر من أي وقت مضى.
وإذا ما نظرنا إلى جماعة الإخوان، تلك الكتلة التنظيمية الضخمة كقوة اجتماعية وسياسية، يصبح من البديهي أن تشهد تنوعاً في وجهات النظر ازاء الأزمات المختلفة، لا سيما وأن الأزمات المترتبة على إنقلاب الثالث من يوليو تعد الأكثر تعقيداً في تاريخها وترتبط بسياقات الاحداث في تداخلها وتشابكها، في ظل أوضاع إقليمية تموج بالإضطراب، نتج عن هكذا تنوع في وجهات النظر أزمة داخلية بين طرفين أحدهما يرى أن الأولوية في الوقت الحالي للحفاظ على جسد التنظيم (وعرف هذا الطرف إعلامياً بجبهة د. محمود عزت أو جبهة القيادة التاريخية)، والآخر يرى بوجوب إجراء مراجعات على المستوى الفكري والاستراتيجي والإداري (وعرف هذا الطرف إعلاميا بجبهة د. محمد كمال أو جبهة التغيير)، وسنلتزم في هذه الورقة بإطلاق مسمى الطرف الأول على جبهة د.محمود عزت وإطلاق مسمى الطرف الثاني على جبهة د. محمد كمال.
أولاً: الأزمة وإجراءات المواجهة:
خلال أكثر من عام أو يزيد من الأزمة الداخلية الأشد في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين تخللها أكثر من مبادرة ومحاولة لرأب صدع الإنشقاق والوصول إلى حلول وسط بين طرفي الأزمة، باءت جميعها بالفشل، في حين استمر طرفي الأزمة في المضي قدمًا في إجراءات لائحية وتنظيمية بعيدًا عن إي توافق بينهما، حيث أعلن الطرف الثاني في 19 ديسمبر 2016، انعقاد مجلس شورى عام الجماعة المنتخب حديثا واتخاذ عدة قرارات كان أهمها اجراء انتخابات وتشكيل مكتب إرشاد مؤقت تحت اسم “المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين”.
واتخذ مجلس الشورى قرارا بفصل المسار الرقابي التشريعي المتمثل في مجلس الشورى عن المسار التنفيذي المتمثل في المكتب العام، وقد صاحب تلك الإجراءات سلسلة إستقالات قدمتها اللجنة الإدارية العليا ومكتب إدارة الأزمة (مكتب الخارج) والمكتب التنفيذي، ومحمد منتصر المتحدث باسم جماعة الاخوان، مقدمة إلى مجلس الشورى العام، تمهيدا لتشكيل مكاتب ومؤسسات جديدة، فضلا عن إصدار كلا من مجلس الشورى والمكتب العام بيانات تم فيها التأكيد على العمل المؤسسي التخصصي، وكذلك التأكيد على المسار الثوري المعتمد من مجلس الشورى المنعقد في أعقاب الانقلاب الثالث من يوليو، وعلى الناحية الأخرى أصدرت جماعة الإخوان المسلمين (الطرف الأول)، بيانًا أكدت فيه أنه لا صحة للأخبار المتعلقة بإنتخابات مجلس الشورى أو انعقاده، تعبيرا عن عدم اعترافها بهذا المسار.
ثانياً: مضامين القرارات الأخيرة:
حملت البيانات والإستقالات الصادرة من الطرف الثاني عدة مضامين يمكن الإشارة اليها ربما لتعبر عن سياق المتغيرات الجديدة التي تتبناها الجبهة على المستوى التنظيمي:
1ـ الفصل بين المسارين التنفيذي والرقابي داخل الجماعة من خلال الفصل بين مكتب الإرشاد ومجلس الشورى العام وهو الأمر الذي يضيف شرعية عملية إلى مجلس الشورى العام في البنية التنظيمية للجماعة، وربما شهد تاريخ الجماعة مقترحات داخلية بشأن شرعية ومهام مجلس الشورى العام للجماعة ولكن لم يتخط الأمر إطار المحاولات.
2ـ انتخاب مكتب إرشاد مؤقت تحت اسم “المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين” ليكون بديلاً عن اللجنة الإدارية العليا وهو الأمر الذي يشير إلى الانتهاء من مسار الانتخابات الداخلية التي كان الطرف الثاني قد أشار إليها في أكثر من بيان سابق، في حين لا نستطيع الجزم بإتمام الإنتخابات على مستوى جميع محافظات مصر حيث أن القبضة الأمنية ربما تعيق إتمام الإجراءات الإدارية للانتخابات هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن استمرار الأزمة الداخلية تسبب في تفرق الصف الإخواني ما بين الميل إلى أحد طرفي الأزمة أو العزوف عن الطرفين وهو ما يعرقل مهمة إتمام إجراء انتخابات تشمل جميع محافظات مصر لكلا الطرفين.
ومما يجدر بالذكر، في هذا السياق، أنه منذ انقلاب الثالث من يوليو وإعتقال أكثر من عضو من أعضاء مكتب إرشاد جماعة الإخوان، قررت الجماعة حينها تشكيل لجنة إدارية عليا تقوم بإدارة الملفات التي كان يتابعها مكتب الإرشاد وما استحدث من ملفات بعد الإنقلاب واستمرت اللجنة الإدارية العليا في عملها، وإن كان تشكيلها قد تغير أكثر من مرة بسبب الضربات الأمنية من ناحية، وبسبب الأزمة الداخلية للجماعة من ناحية أخرى.
3ـ التأكيد على الالتزام بالمسار الثوري الذي تبنته الجماعة منذ إنقلاب الثالث من يوليو، وهو الأمر الذي يؤكد عليه طرفي الأزمة في أغلب بياناتهم وتصريحاتهم.
4ـ جاءت مجموعة الاستقالات التي تلت القرارات مباشرة، وأهمها استقالة جميع القيادات السابقة المنتمية للطرف الثاني من مواقعها الإدارية، لتدحض، من وجهة نظر البعض، فرضية أن العامل الرئيس للأزمة الداخلية هو مجرد خلاف تنظيمي منشأه تنازع على مقاعد القيادات التقليدية، في حين إحتوت إستقالة مكتب إدارة الأزمة (مكتب الخارج) على شكل من أشكال كشف الحساب، حيث أوضح نص الإستقالة على الرؤية التي تبناها المكتب خلال فترة عمله والمستهدفات والبرامج والمؤسسات التي تم إنشاؤها بشكل يحافظ على التخصصية والعمل المؤسسي.
5ـ ستبقى القرارات الأخيرة للطرف الثاني، محل تقييم ومتابعة من مؤيدي هذا الطرف والمتابعين لشأن جماعة الإخوان بشكل عام، مما يمثل تحدي وإختبار لمصداقية قراراته الأخيرة، وهو ما سيسفر إما عن بناء شرعية جديدة لجماعة الإخوان المسلمين، وإما أن الأمر لن يتعدي مجموعة القرارت والتصريحات الأخيرة.
ثالثاً: دلالة التوقيت:
ربما يفهم من خلال إطار التنافس التنظيمي بين طرفي الأزمة، مسارعة أحد الأطراف في إتمام الإجراءات الإنتخابية والإعلان عنها، وهو ما قام به الطرف الثاني في الأيام الماضية، إلا أنه وبحسب قراءة المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية يبدو أن الإعلان في هكذا توقيت غير ملائم، لأكثر من سبب:
1ـ إعلان الطرف الثاني عن إجراء إنتخابات وتشكيل مكتب إرشاد مؤقت، وهو ما يعني تمايز هذا التيار داخل جماعة الاخوان في إطار هيكل تنظيمي للمرة الأولى منذ إندلاع الأزمة الداخلية، ربما يتسبب هكذا إجراء إلى تشديد الخناق ومحاصرة هذا التيار من قبل منظومة الإنقلاب من خلال توجيه ضربات أمنية للهيكل التنظيمي المنتخب بهدف الاستنزاف الدائم لقيادات هذا الطرف.
2ـ زيادة الأعباء التنظيمية والإدارية على الطرف الثاني وما يستتبعه من زيادة الأعباء المادية مع إستمرار انهماك الجسد الجديد في دائرة الصراع الطاحن مع منظومة الإنقلاب، والتي كما ذكرنا سابقاً ستشهد مرحلة من تصاعد وتيرة التضييق، ومن ناحية أخرى إدارة وترتيب البيت الداخلي، مما سينعكس بدوره على درجة إنضاج الأفكار والرؤية والتقييم والمراجعة التي هي عماد هذا الطرف في انطلاقته الجديدة.
رابعاً: تداعيات القرارات الأخيرة:
لا يمكن النظر إلى تداعيات القرارات الأخيرة للطرف الثاني على جماعة الإخوان بمعزل عن المسار الثوري والمشهد المصري بل والمشهد الإقليمي أيضاً، وهو ما يدفعنا إلى النظر إلى التداعيات عبر أكثر من مستوى:
المستوى الأول: على الإخوان تنظيماً وأفراداً:
1ـ بالرغم من حالة الانقسام الداخلي لجماعة الإخوان، وبالرغم من سلبيات الإنقسام داخل أي كيان تنظيمي، إلا أن هذا الانقسام خلق حالة تنافسية تسابق فيها الطرفان لإحداث تغييرات لائحية وهيكلية ومحاولة تطوير آليات العمل والمنظومة التربوية والفكرية، وهو أمر كانت الجماعة قد تباطأت فيه كثيراً بسبب استنفاذ طاقاتها خلال الإجراءات التنظيمية والتنفيذية في معاركها مع نظام مبارك، ومعاركها الإنتخابية بعد ثورة يناير، وربما يكون قد غلب على حالة التطوير والتغيير الحالية سرعة الإجراءات وإتخاذها إطار شكلي في بعض المواضع، ويرجع ذلك إلى حالة التنافس التنظيمي بين الطرفين التي شهدتها الفترة السابقة.
2ـ ستمثل القرارات الأخيرة التي اتخذها الطرف الثاني دافعاً في هكذا توقيت إلى أن يقوم الطرف الأول بإجراء عمليات تجديد جوهرية تمس البنية التنظيمية للجماعة كأولوية يتلوها فيما بعد اجراءات ومراجعات للمنظومة الفكرية بما يناسب المتغيرات والتحديات الحالية، وإلا فإن استمرار نزيف الأفراد لهذا الطرف سيستمر إما اتجاهاً إلى الطرف الآخر وإما عزوفاً عن أي مشاركة فعالة.
3ـ التمسك بالمسار الثوري في الخطاب السياسي والإعلامي للطرف الثاني، ساهم بشكل ليس بالقليل في الحفاظ على شريحة من شباب جماعة الإخوان داخل التنظيم وإبقائها دون التحرك والتوجه إلى مسارات وتنظيمات أخرى باتت تغرى قطاع من شباب الجماعة بسبب تحقيقها نجاحات ظاهرية.
4ـ تأطير الانقسام في شكل تنظيمي وفي ظل مسار ثوري لا يبدو عليه أن ثمة انفراجة قريبة لأزماته، سيدفع إلى استمرار عزوف قطاع من افراد ومؤيدي جماعة الإخوان عن المشاركة في مساحات الإنقسام المتولدة.
المستوى الثاني: على المسار الثوري:
1ـ يمكن أن يمثل وصول الأزمة الداخلية لجماعة الإخوان إلى محطة الانتخابات وتشكيل هياكل تنظيمية لكلا الطرفين، إيذانا بخروج طرفي الأزمة من دائرة الصراع الدائر بينهما والوصول إلى أدوار تكميلية بين الطرفين تسير في خدمة الثورة والوطن وإصلاح وتطوير الجماعة، في حين أن إنتقال المعركة مع الوقت من جبهة مواجهة منظومة الانقلاب إلى جبهة المعارك والأزمات الداخلية لجماعة الإخوان، يمكن أن تظل إحتمالية قائمة.
2ـ التمايز الواضح بين طرفي الأزمة ووصوله إلى المستويات التنظيمية يمكن ان ينتج عنه إعطاء مسوغ تستند إليه منظومة الإنقلاب في التمهيد لإجراء تسوية ما مع أحد طرفي الأزمة على حساب الطرف الآخر، في هذه الحالة سيكون من المنطقي سعي منظومة الإنقلاب لإجراء هكذا تسوية مع طرف وإستمرار محاصرتها للطرف الآخر، وهو ما سيعمق من تأزم المسار الثوري.
3ـ أن احتمالية امتداد الصراع بين طرفي الأزمة ودخوله في حلبة الصراعات الإقليمية القائمة، حيث أن تناقضات المشهد الإقليمي، وتعدد أطرافه تجعل من تسلل أطراف إقليمية للأزمة الداخلية لجماعة الإخوان أمراً قائماً، ويعد هذا الإحتمال هو الأشد خطورة على الإطلاق على جماعة الإخوان ومسار الثورة المصرية على حد سواء.
خامساً: الإخوان: بين القرارات الأخيرة والأزمة الداخلية
ثمة جملة من المشاهدات يمكن من خلالها رؤية الأزمة الداخلية لجماعة الإخوان في وضعها الحالي، والقرارات الأخيرة للطرف الثاني:
1ـ لا توجد معلومات مؤكدة أو مقياس يمكن من خلاله الجزم بتحديد الأوزان الفعلية والتأثيرية للطرفين ولا مواقع تمركزهم وانتشارهم على مستوى الهياكل التنظيمية لجماعة الإخوان، الأمر نفسه على مستوى الأفراد حيث يكون من الصعوبة بمكان تحديد أية أوزان فعلية لكلا الطرفين، في ظل حالة من العزوف والتململ من أحداث الأزمة الداخلية وتفاصيلها وتعقيداتها، بدت واضحة بين الكثيرين من أفراد وشباب جماعة الإخوان في الفترة الأخيرة.
2. بالرغم من الجهد المبذول من الطرف الثاني في إطار المراجعات وصياغة الرؤية الجديدة والفلسفة التي اعتمدت عليها، إلا أنه لا يزال هناك عدم وجود طرح حتى الآن من قبل هذا الطرف لرؤية تنفيذية واضحة المعالم تجيب على الأسئلة الحرجة التي تولدت مع الأزمات التي توالت بعد إنقلاب الثالث من يوليو، والتي يندرج تحت سياقها أحد الأسئلة المرحلية الخاصة بإدارة الصراع مع منظومة الانقلاب وهو ما يترتب عليه تحدي ليس بالهين في القدرة على إقناع شريحة كبيرة داخل الإخوان بتلك الرؤية، ومن ناحية أخرى يظل إخفاق أحد أطراف الإخوان في ظل تعثر مسارت التسوية والإفراج عن المعتقلين، ينعكس على قدرته في إقناع شريحة مماثلة داخل الإخوان برؤيته ورهانه على الحفاظ على جسد التنظيم.
3. ستبقى مسألة إجراء الإنتخابات في خضم ما تمر به الجماعة من تحديات وأزمات هي قضية تبدو، حتى الآن على الأقل، إجرائية، وربما تستطيع إستيعاب البعض أو تحقيق نجاحات جزئية، ولكن ستبقى أسس الأزمات والمشاكل، وهو ما يجب الإنتباه إليه في عدم التعويل فقط على الإنتخابات بشكل كبير في مسار الإصلاح والتجديد داخل جماعة الإخوان، فالحديث عن اجراء انتخابات هو في النهاية مستوى إجرائي لا ينفذ إلى أصل المشاكل والأزمات الموجودة، إن لم يتبعها فتح باب نقاش جاد بين شرائح متعددة ومختلفة داخل الجماعة حول المؤسسية والشرعية وطريقة إعمال الشورى وآلية اتخاذ القرارت والإنقسام الداخلي والشفافية والمحاسبة والتقييم والمراجعة وإستعادة الثقة والخطاب الإعلامي والسياسي، حيث تعد كلها أمور ذات أهمية، وربما تحتاج إلى ترتيبها من حيث أولوية الوقت الراهن في المناقشة وطرح الحلول والقدرة على تنفيذها.
4. على الرغم من شروع الطرف الثاني في إجراء مراجعات حول أهم الممارسات في المجالات السياسية والتربوية والإدارية وبعض القضايا الفكرية، إلا أن الأزمة الداخلية لجماعة الإخوان كشفت عن مجموعة من الإشكاليات الفكرية العميقة التي تعانيها الجماعة بشكل عام، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر إستمرار إضطراب الرؤية السياسية لنظرية الدولة القومية والنظام السياسي وغياب النموذج، وهو ما يشير إلى مدى الحاجة إلى مراجعات تتعلق بالمنظومة الفكرية لجماعة الإخوان وهي المساحة التي لا يزال هناك تخوف وريبة من الإقتراب منها.
5. قد تكون العوامل المؤثرة على مثل هذا الانشقاق الواقع داخل كيان بحجم جماعة الإخوان المسلمون لا يرجع فقط إلى منهجية التعامل مع الأزمات وإصلاح وتجديد الجماعة، إنما تظل هناك عوامل أخرى مؤثرة تتمثل في وجود تباين واسع بين أفراد الجماعة من حيث المستوى التعليمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والفئات العمرية، وهو ما يمثل تحدي مستمر في القدرة على إدارة هذا الحجم من التنوع واستثماره دون أن يكون عاملاً للإنقسام والتشرذم في أوقات الأزمات.
6. يتحتم على جماعة الإخوان حتى تحافظ على أفرادها ومؤيديها، أن تُعبر عن مصداقيتها في رغبتها لإنجاح الثورة المصرية وتحقيق أهدافها، والتي يأتي على رأسها تغيرات جذرية في المنظومة السياسية المصرية، ولن يتحقق هذا دون أن تقدم الجماعة نفسها نموذجاً تغييرياً على نفس المستوى.