بعد انقلاب 1952، أراد الجيش شراء الناس (ببطاقات التموين ومجانية الصحة والتعليم) لاكتساب شعبية كانت مطلوبة لتأسيس دولة العسكر القومجية العلمانية السلطوية، على حساب مشاريع أخرى تدعو للحريات وعودة الجيش للثكنات، والجامعة الإسلامية.
وحيث أن دولة العسكر الآن، بعد ستين عاما من الاستقرار، لم تعد تحتاج الناس لاكتساب شرعيتها، المستمدة الآن مثلما قال أحدهم من الشرعية المسلحة، فلا داع من وجهة نظرها لإنفاق الملايين والمليارات بغير داعي على “العوام” ومن الأفضل شراء قطاعات ومؤسسات داخل الدولة لتأمين الاستقرار (مثل الجيش والإعلام والشرطة والقضاء)، أو لصالح حساباتهم المتراكمة في الخارج!
السيسي يسير في مخطط إلغاء الدعم بالكامل، بل ورفع تكلفة عن السلع والخدمات عن أسعارها الحالية، مع بعض عبارات التعاطف ودموع التماسيح، للشعب الذي لم يكن اليسي يأمل في أن يخسره، لكنه لم يفعل في المقابل أي شيء حقيقي كي يكسبه، سوى بعض العبارات المكررة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ودعوات متكررة للتقشف!
لكن السيسي ينسى أو لا يدرك أن عبد الناصر حين هزم عسكريا في 1967 لم يسعفه أو ينجده إلا الشرعية المستمدة من حب الناس له وقتها، حتى مع انكسار قوته العسكرية، وهزيمة جيشه هزيمة نكراء. كان الناس يقولون، فازت اسرائيل بالحرب؛ لكنها لم تحقق أهدافها المتمثلة في الإطاحة بالزعيم، لأن الزعيم لا يزال يحكم (وهذا من البلاء، ونتيجة القبضة الإعلامية للنظام وقتها).
وحين تتحول دولة العسكر من شرعية الناس إلى شرعية السلاح، فهذا تطور نوعي خطير، نجحت الثورة بقصد أو دون قصد في إحداثه.
فلقد اضطر العسكر إلى الظهور من وراء الستار الذي كانوا يحكمون من خلاله، والذي كانوا ينسبون إليه كل مساوئ الحكم (من علاقة مع الصهاينة وفشل اقتصادي)، إلى الحكم بأنفسهم، وبالدبابة في الشارع، بعد أن سقط مشروع الديكور الديمقراطي، بنزول الإخوان بثقلهم في التحرير في 2011، ودفعهم بمرشح رئاسي في 2012، ورفض الانقلاب العسكري في 2013، وياله من إنجاز (سقوط الديكور الديمقراطي عن الديكتاتورية العسكرية) في صالح الثورة!
وقد فعل العسكر ذلك مدفوعين برغبة جارفة في الحكم والسيطرة، بعد أن كاد يضيع الحكم منهم من خلال مشروع التوريث، ومدفوعين بالتخوف الشديد من مشروع الإخوان الذي كان يرمي إلى تأسيس آلية جديدة لانتقال السلطة في البلاد، وهي الانتخابات، بدلا من القوة المسلحة، وهو ما أرعب العسكر جميعا، الذين أرادوا إرسال رسالة، أن صوت المواطن بلا قيمة، وأن هذا المواطن إذا أتى ببرلمان سيتم حله، وإذا أتى بدستور سيتم شطبه، وإذا أتى برئيس سيتم عزله!!
لقد كان الانتصار للرئيس محمد مرسي ضد الانقلاب العسكري عليه انتصارا للآلية الجديدة لتداول السلطة (الانتخابات) في مقابل “الشرعية المسلحة”، والحكم بالدبابات، لكن قطاعات عريضة من الناس لم تفطن – وربما لم تعبأ – لذلك.
وغالبية هؤلاء الناس بعد لم يفطنوا أنهم حين انتصروا للسيسي، ولو بالصمت الموافق على ماحدث، لم ينتصروا له كشخص، بقدر ما انتصروا للمعسكر الذي أتى منه! لقد كان انتصار للدولة القديمة في مقابل مشروع الدولة الوليدة!
لكن الدولة القديمة لا تحتاج للناس كما قلنا، وعليه، فقد أخذت من الناس تأييدها اللحظي المرحلي، ثم عادت سيرتها الأولى في التنكر للناس، والسير قدما في مخططات رفع الدعم عنهم، لصالحهم الخاص، أو لصالح مؤسسات لشراء ذممهم وتأييدهم!
إن مخططات رفع الدعم، ليست نابعة فحسب من شروط صندوق النقد، بحيث يمكن تصوير الأمر وكأن السيسي مضطر إليها، ولكنها أيضا نابعة عن قناعات السيسي نفسه بوقف الدعم، وهي قناعات عبرت عن نفسها كثيرا في تصريحات تتوعد الناس بأنه لن يسمح أن يروا منه جنيها واحدا!
أرجو أن يربط الناس بين ما هم فيه من ضنك وبين حكم العسكر للمدنيين، وليس بالسيسي كشخص، فالعسكر متفقون في الأهداف، مختلفون في الأشكال! لكن الطامة الكبرى أن هناك من لا يزال يعتقد أن محاولة التأسيس لحكم المدني هي المتسببة فيما هم فيه، أو أن بعض العسكر أفضل من غيرهم!