كما في جميع الانقلابات التي جرت حول العالم، ما إن يقع انقلاب حتى تبدأ التساؤلات عن شكل ودور الخارج في تنفيذها أو دعمها أو غض النظر عنها ولاسيما دور الولايات المتحدة الأميركية حيث سجل التاريخ دورا كبيرا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. أي) في الإطاحة بالأنظمة وتدبير الانقلابات في عدد من الدول حول العالم لاسيما خلال الحرب الباردة.
الحالة التركية ليست استثناء من هذه الزاوية، خاصة أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية لم تكن بعيدة دوما عن الانقلابات التي جرت في تركيا منذ العام 1960، حيث كان التحالف بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا يمر عبر المؤسسات العسكرية والأمنية في البلدين كمدخل للعلاقات السياسية.
العلاقة ما قبل الانقلاب
شهدت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا خلال عهد أوباما صعودا وهبوطا حادا على مدى سبعة أعوام تقريبا؛ إذ اتسمت في البداية بالطابع الإيجابي جدا، ووُصفت العلاقة بينهما في العام 2010 بأنها علاقة نموذجية. وبالرغم من أن العلاقات الشخصية بين الرئيس الأميركي أوباما ورئيس الحكومة التركية آنذاك رجب طيب أردوغان كانت توصف بأنها مميزة، إلا أنها لم تنجح في تحويل هذه الحميمية إلى أجندات مشتركة.
وسرعان ما تلاشى التصور الإيجابي وتبين أن لدى الإدارة أجندات أخرى، وبرز التناقض بشكل كبير بين توجهات السياسية الخارجية في البلدين لاسيما بعد اندلاع الثورات العربية وتحديدا بعد اندلاع الثورة السورية حيث بدا أن واشنطن لا تكتفي بموقف محايد على الأقل بل تعمل بشكل يخدم الأطراف التي تعادي تركيا في محيطها الإقليمي، ناهيك عن الخلاف الذي اندلع فيما بعد نتيجة دعم الإدارة الأميركية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده صالح مسلم، وشملت قائمة الخلافات بين البلدين الملف المصري والملف السوري وملف مكافحة الإرهاب.
شكوك حول الدور الأميركي
كان واضحا أثناء الساعات الأولى من الانقلاب عدم وجود موقف رسمي أميركي واضح مما يجري، وما إن بدا أن مسار الانقلاب ووتيرته في تراجع وأن المعركة شارفت على الانتهاء لصالح الحكومة حتى صدر موقف الولايات المتحدة الذي أكد على “دعم جميع الأطراف للحكومة التركية المنتخبة ديمقراطيا، وضرورة ممارسة ضبط النفس وتجنب العنف وإراقة الدماء”، تلاه بيان صادر عن الخارجية الأميركية يقول إن كيري أبلغ نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، في مكالمة أجراها معه، أن “الولايات المتحدة تدعم بشكل مطلق الحكومة التركية المدنية المنتخبة ديمقراطيا ومؤسساتها الديمقراطية”.
ومع ذلك، فقد تبين أن موقف الإدارة الأميركية التي غالبا ما يكون لها السبق في التعليق على التطورات الدولية متأخر للغاية بالنظر إلى أهمية تركيا وإلى كونها دولة حليفة وعضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في الوقت الذين كان فيه عدد ممن يسمون بالخبراء وحتى بعض المسؤولين الرسميين الأميركيين، ناهيك عن شريحة واسعة من الصحافة والإعلام الأميركي قد عبروا صراحة وبشكل مبكر عن موقفهم في حالة دعم واضحة للانقلاب، ثم ما لبثوا أن عبروا عن خيبة أملهم من فشل الانقلاب.
عند سؤال الـ”سي أن أن تورك” للسفير الأميركي في أنقرة عن دور محتمل للولايات المتحدة في دعم الانقلاب، أنكر هذا الشيء جملة وتفصيلا، وأشار إلى أنهم تابعوا الأمر من خلال ما توافر من معلومات في حينه ولم يدركوا بأنها محاولة انقلابية، وكذلك نفى المسؤولون الأميركيون مثل هذا الأمر، وقال كيري إن مثل هذه الاتهامات تضر بالعلاقات الثنائية.
وعلى الرغم من أن تركيز السلطات التركية الآن لا يتجه نحو توجيه اتهامات مباشرة للجانب الأميركي بدعم المحاولة الانقلابية أو تسهيل مهمتها أو التغاضي عنها، بقدر ما يركز على ضرورة تسليم فتح الله غولن، إلا أن وزير العمل التركي سليمان سويلو كان أول من أشار إلى وجود دعم أميركي للانقلاب، تبعه عدد من المحللين المؤيدين لهذا التوجه الذي يستند في حده الأدنى إلى علامات استفهام حول:
1- الدور الذي لعبته قاعدة إنجرليك الجوية خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة في ضوء المعلومات التي تتعلق بدور طائرة البوينغ (KC-135) التي تحمل الرمز (ASENA) والتي أقلعت منها ولعبت دورا في إبقاء الطائرات المقاتلة أف-16 التابعة للانقلاب فاعلة في الجو دون الحاجة إلى الهبوط والتزود بالوقود من القواعد الأرضية، مع معلومات تشير أيضا إلى أن طائرات الإمداد اللوجستية التي أقلعت من قاعدة أنجرليك لمساندة طائرات الـ أف-16 التابعة للانقلابيين، بلغ عددها أربع طائرات وليس طائرة واحدة.
2- طبيعة العلاقة بين الجانب الأميركي وفتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والذي تقول السلطات التركية إنه يقف وراء الانقلاب.
الخلاف حول غولن
في المرحلة السابقة رفضت الولايات المتحدة التجاوب مع المطالب الشفهية للسلطات التركية بتسليم فتح الله غولن المقيم لديها منذ العام 1999، إذ كانت ترى أن هذه المطالب تحمل طابعا سياسيا أكثر منه جنائيا؛ لكن فشل المحاولة الانقلابية الحالية وضع الجانب الأميركي في وضع حرج، فرفض تسليمه بالمطلق سيؤكد الانطباع القائل بأن هناك دورا ما للولايات المتحدة بهذا الانقلاب بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحا أم لا، كما أن تسليمه في المقابل بكل بساطة أمر صعب، على الأقل من الناحية القضائية التي تتطلب الكثير من المعطيات وفق وجهة النظر الأميركية.
ومع مطالبة السلطات التركية للولايات المتحدة الثلاثاء الماضي باستعادة فتح الله غولن بشكل رسمي، من المتوقع أن ينشأ نوع من التجاذب في هذا الموضوع سيما في ضوء وجود الاتفاقية القانونية بين البلدين. (اتفاقية “إعادة المجرمين”) وتتيح هذه الاتفاقية -التي تم التوقيع عليها في أنقرة في 7 يونيو/حزيران 1979 ودخلت حيز التنفيذ بعد المصادقة عليها من الطرفين في 1 يناير/كانون الثاني 1981- تسليم أي من المجرمين الموجودين على أراضي أي منهما إلى الطرف الآخر بعد تقديم طلب بهذا الخصوص وفق معايير محددة.
وتتضمن الاتفاقية تسع حالات تمتنع بموجبها أي من الدولتين عن تسليم الشخص المطلوب للدولة الأخرى إذا انطبق عليه إحدى تلك الحالات، وهو ما يتيح مجالا أكبر لإدارة أوباما للمناورة، لاسيما في ظل حقيقة أن:
1- الفقرة (أ) من النقطة رقم (1) من المادة الثالثة في القسم الأول من هذه الاتفاقية، والتي تشير إلى أنه لا يمكن تسليم الشخص المطلوب إذا كان شخصية سياسية أو إذا كانت التهمة المنسوبة إليه تهمة سياسية، أو إذا كان طلب الدولة المعنية للشخص المطلوب قد تم بناء على تصور لمحاكمته أو معاقبته لجريمة ذات طابع سياسي أو بسبب آرائه السياسية.
2- يتطلب تسليم أي شخص وفق هذه الاتفاقية تقديم سلسلة من المعطيات المتعلقة وفق المادة السابعة بالجانب القانوني كالتهمة التي يحاكم بموجبها، والقانون الذي سيتم محاكمته وفقه والعقوبة التي قد تصدر تبعا للتهمة بموجب هذه المحاكمة ومذكرة إلقاء قبض من قبل قاض وإفادة وقائع، بالإضافة إلى الأدلة والبراهين التي تبرر اعتقاله ومحاكمته.. الخ، وكذلك الأمر بالنسبة للمادة 8.
لكن الاتفاقية نفسها تتيح للجانب التركي أيضا القدرة على متابعة طلبه استنادا إلى:
1- التهمة المنسوبة إلى فتح الله غولن ليست تهمة سياسية، فالرجل ليس سياسيا فضلا عن أن جماعته لم تشكل رسميا في أي يوم من الأيام حزبا سياسيا ولم تطلب ذلك أصلا. التهمة الحالية مرتبطة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب العسكري.
2- حتى في حالة اعتبار أن الشخص المطلوب له صفة سياسية أو أنه متهم بجريمة ذات طابع سياسي، فإن الاستثناء الوارد في الفقرة (أ) من النقطة رقم (1) من المادة الثالثة التي تطرقنا إليها أعلاه تتيح اعتبار القيام بأية جريمة أو محاولة ارتكاب جريمة بحق رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو أي فرد من عائلتهما جريمة غير سياسية.
3- المادة العاشرة من القسم الثاني من الاتفاقية تتيح لأي من الطرفين الطلب من الطرف الآخر اعتقال أو احتجاز الشخص المعني حتى قبل تقديم الأدلة والبراهيم على أن يسري ذلك لمدة 60 يوما بانتظار تقديمها.
إجراءات ما بعد الانقلاب
وفي سياق ملاحقة السلطات التركية لمنفذي الانقلاب والمشتبه في انتمائهم لجماعة فتح الله غولن، يتم الآن اتخاذ كافة التدابير التي تضمن إحالة المتهمين أو حتى المشتبه بهم في كافة مؤسسات الدولة إلى القضاء للبت في أمرهم وقطع الطريق على إمكانية إعادة إحياء العمل الانقلابي أو العمل “تحت الأرض” كما يقال.
ولأن الموقف الأميركي حساس للغاية فإن الخارجية الأميركية تحاول أخيرا أن توازن خطابها، إذ اعتبرت أن “ما تقوم به الحكومة التركية من مطاردة الضالعين في محاولة الانقلاب الفاشلة أمرا “مفهوما ومبررا”، لكن ذلك لا يعد تراجعا في الموقف الأميركي سيما وأنها حذرت من “خروج أي من هذه الإجراءات عن هدفها الأساسي”.
مثل هذا الخطاب مفهوم سياسيا لكنه غير مبرر عندما يأتي بفوقية، وهو أمر من المتوقع أن يسبب حساسية كبيرة لدى الجانب التركي بالنظر إلى المواقف التقليدية الانتقائية و”النفاقية” للغرب إذا صح التعبير، وهو ما أشار إليه الرئيس أردوغان في مقابلته الحصرية على الجزيرة عندما تطرق إلى الحالة المصرية والسورية، فضلا عن ذلك فإنه قد يساعد على ازدياد الشعور الشعبي السلبي لدى الأتراك تجاه الإدارة الأميركية ولا يساعد على تخفيف التوتر المتصاعد بين البلدين.
خلاصة القول، لا شك أن الانقلاب الذي جرى يعقد العلاقة المتدهورة أصلا والتي يسودها الشك وعدم الثقة بين الحكومة التركية والإدارة الأميركية، فملف فتح الله غولن سيطغى على غيره من الأولويات في هذه المرحة وسيكون بمثابة ملف خلافي إضافي بين البلدين، لكن الطرفين معا يعيان تماما معنى الشراكة الإستراتيحية وحاجة كل منهما إلى الطرف الآخر وأن ليس باستطاعة أي منهما أن يتحمل نتائج وتداعيات قطيعة دائمة أو تدهور كبير في العلاقات.
وبغض النظر عن طبيعية وحقيقة وجود أي دور أميركي في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت، فإن الطريقة التي سيتم التعامل بها من قبل الولايات المتحدة مع موضوع فتح الله غولن ستؤثر بالضرورة على شكل العلاقة مع تركيا في المرحلة القادمة.