كانت المحاولة الانقلابية في تركيا ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو 2016، لحظة استثنائية في تاريخ تركيا الحديث بكل ما للكلمة من معنى، على مستوى تجربة العدالة والتنمية، وعلى مستوى إمكانية تكرار الانقلاب في البلاد، وعلى مستوى مستقبل تركيا ومسيرتها.
وفي مقابل ذلك تدرك القيادة التركية استثنائية اللحظة وحساسية المرحلة، ولذا تحاول أن تديرها بما يناسبها من إجراءات وسياسات ومواقف تتناسب مع حجم الخطر وعمق الأزمة وحساسية التطورات. ويمكننا أن نرصد عدة مسارات بدأت تتبلور معالمها للمرحلة الجديدة في تركيا فيما يتعلق بالمشهد السياسي -الأمني الداخلي، أهمها:
أولاً: حالة الأمن في البلاد.
لقد استدعت الحالة الاستثنائية من تطورات الأحداث خلال وبعد المحاولة الانقلابية والعدد الكبير من الموقوفين وتوقع ازدياده مع مرور الوقت والفراغ الكبير الذي تركه ذلك في بعض المؤسسات المهمة، استدعت اقتراح مجلس الأمن القومي برئاسة أردوغان على الحكومة فرض حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر، وهي التوصية التي تبنتها الحكومة ثم أقرها البرلمان.
وتنشد الحكومة من إعلان حالة الطوارئ فرض الأمن والاستقرار في البلاد وتسهيل ثم تسريع عملية التوقيفات والتحقيق في ملابسات الانقلاب وكشف كافة الأشخاص المتورطين فيه وشبكات علاقاتهم الداخلية والخارجية بدقة وسرعة ومنع أي خطط بديلة أو عمليات ارتدادية أو محاولات لإثارة الفوضى أو عمليات اغتيال قد يلجأ لها من يقف خلف المحاولة الانقلابية التي فشلت في موجتها الأولى.
ووفق المادة 120 من الدستور التركي، فإن إعلان حالة الطوارئ يعطي الولاة/المحافظين صلاحيات واسعة تتعلق بفرض الأمن في البلاد، مثل إمكانية إعلان حظر التجول في بعض المناطق في ساعات محددة، أو التوقيف بالشبهة وتمديد فترة الاعتقال دون توجيه تهمة، وإصدار مراسيم بحكم القوانين (دون الحاجة لإقرار البرلمان) وإعفاء هذه المراسيم من الرقابة القضائية. وهي أمور تشير بصراحة إلى تحديد محتمل للحريات العامة والحقوق بنسبة أو بأخرى حرص المسؤولون الأتراك على التأكيد أنها هامشية ومؤقتة جداً، كما حرصوا على التأكيد على رغبتهم بإنهاء حالة الطوارئ خلال 40 يوماً دون انتظار مرور الأشهر الثلاثة المحددة الآن.
ثانياً، المؤسسة العسكرية:
نجح حزب العدالة والتنمية بعمل متدرج وهادئ على مدى سنوات عديدة في تصحيح العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية وتقليم أظافر الجيش وكف يده عن التدخل في الحياة السياسية و/أو توجيهها، مستعيناً بمعايير الانضمام للاتحاد الأوروبي والحاضنة الشعبية التي حظي بها وقضايا محاكمة الضباط الانقلابيين أو الذين خططوا لانقلابات مثل “أرغنكون” و”المطرقة” وغيرها والتي ثبت لاحقاً أن الكثير منها مُلفق لكنها أضعفت من موقف المؤسسة العسكرية وأساءت لصورتها أمام الشعب في ظل حكومة قوية وذات إنجازات.
ولئن شهدت الشهور الأخيرة عودة التناغم بين الطرفين السياسي والعسكري وزيادة مساهمة الأخير في القرار السياسي بفعل الحاجة له في ظل التصعيد مع حزب العمال الكردستاني والتهديدات الأمنية في شمال سوريا (تنظيم الدولة والفصائل الكردية المسلحة) والتفجيرات الكثيرة داخل البلاد، إلا أن لحظة المحاولة الانقلابية الفاشلة أعادت الجيش كمؤسسة لمربع الاتهام والدفاع والإحراج، وهي فرصة لا تعوض للعدالة والتنمية بقيادة أردوغان.
لذلك من المتوقع أن يسعى الأخير لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية لضبط بنيتها وتبعيتها ومنظومة أفكارها، وهو هدف لطالما رغب به، لكن عجز عنه في ظل الدستور والقوانين المرعية وتاريخية التجربة التركية ووضعية الجيش فيها. اليوم، تبدو تركيا أقرب إلى لحظة “ثورية” تتخفف فيها من الضوابط السابقة والضغوط المتوقعة، متسلحة بسخونة الحدث والحاضنة الشعبية ذات السقف العالي وانكفاء المؤسسة العسكرية أمام ضغط مسؤوليتها الأخلاقية والمعنوية عما حصل من جرائم وخطايا.
على المدى المتوسط والبعيد، يمكن انتظار بعض القرارات الهامة على هذا الصعيد مثل:
1) تغيير رئيس هيئة الأركان باعتباره لا يصلح رمزاً للمؤسسة العسكرية في المرحلة المقبلة، إذ فشل في كشف أو إحباط التمرد داخل الجيش، واعتقل وأهين من قبل مساعديه، كما دمغ عهده بالمحاولة الانقلابية، بينما تحتاج المؤسسة العسكرية لـ “رمز” يقودها قد يكون مثلاً قائد الجيش الأول الذي رويت عنه الكثير من التفاصيل الإيجابية في مقدمتها اتصاله بأردوغان وإعلانه الولاء له واستعداده لحمايته، وقد فعل.
2) إغلاق الكليات الحربية التي ترفد قطاعات الجيش المختلفة بالضباط ووقف الانتساب للجيش مؤقتاً، باعتبار أن هذه المدارس كانت إحدى وسائل جماعة كولن للنفوذ إلى المؤسسة العسكرية والسيطرة عليها.
3) إلغاء قسم الدرك/ الجاندرما التركية أو تسريح أعضائه وتوزيعهم على الأقسام الأخرى باعتباره أحد أهم طرفين (مع القوات الجوية) شاركا في الانقلاب، بعد أن فصلت تبعيته قبل أشهر عن الجيش وأتبع لوزارة الداخلية ضمن حزمة قرارات أصدرها البرلمان.
4) إلحاق رئاسة أركان الجيش بوزارة الدفاع وإلغاء استقلاليتها عنها، وبالتالي إتمام السيطرة “المدنية” على الجيش.
وربما لن تتجه الحكومة مباشرة لكل هذه التعديلات، وبطبيعة الحال فلا نتوقع حصولها بين ليلة وضحاها، لكنها ستكون في ذهن صانع القرار التركي بالتأكيد وفق رغبته بإنهاء استقلال المؤسسة العسكرية عن القيادة السياسية، ووأد فكرة الانقلاب داخلها نهائياً وتماماً. لكن في كل الأحوال، تبدو الحكومة التركية حريصة جداً على التوازن بين “استثمار” ضعف المؤسسة العسكرية ووقوعها في مظنة الاتهام لإخضاعها للقرار السياسي وبين “إضعاف” الجيش الذي لا غنى للدولة عنه مبدئياً وعملياً أيضاً في ظل التحديات الداخلية والخارجية وفي مقدمتها مواجهة حزب العمال الكردستاني.
ولذلك طالعنا تصريح أردوغان بأن الجيش “يخضع لأمر” القيادة السياسية والولاة بعد إعلان حالة الطوارئ ورأينا من جهة أخرى الإصرار على “تبرئة” الجيش كمؤسسة من الانقلاب وإلصاقه حصراً بالتنظيم الموازي رغم أن عدد الاعتقالات في المؤسسة العسكرية وعمقها وشمولها ومناصبها تظهر بوضوح أن الأمر أكبر من مجرد التنظيم الموازي (حتى كتابة هذه السطور تم توقيف أكثر من ثلث قيادات المؤسسة العسكرية من رتبة لواء فما فوق، وإبقاء أكثر من ربعهم رهن الاعتقال).
ثالثاً، مكافحة التنظيم الموازي:
كان الصدام بين “جماعة الخدمة” التابعة لفتح الله كولن وحكومة العدالة والتنمية قد بدأ خفياً في 2012 إثر محاولتهم التحقيق مع رئيس جهاز الاستخبارات وذراع أردوغان اليمنى “حاقان فيدان”، ثم انتقل للمستوى العلني مع قضايا الفساد في نهاية 2013. ومنذ ذلك الحين والحكومة تواجه التنظيم في مختلف مؤسسات الدولة، حيث نجحت في تحجيمه بشكل كبير في أجهزة الاستخبارات والأمن والشرطة، كما ضيقت على مؤسساته المالية والإعلامية والأكاديمية، وبقي لديه آخر قلعتين: المؤسستان العسكرية والقضائية.
واليوم، تبدو المحاولة الانقلابية الفاشلة فرصة ذهبية للحكومة لتفعّل ملف مكافحة التنظيم -المتهم بالوقوف خلف الانقلاب -فرأينا كيف شمل التحقيق الآلاف من منتسبي مختلف المؤسسات -سيما القضائية والعسكرية -وكيف سارعت الحكومة لكف يد الآلاف من الموظفين في مختلف الوزارات وفق قوائم كانت معدة مسبقاً كما يبدو بعد إعلان التنظيم منظمة إرهابية في اجتماع مجلس الأمن القومي قبل الأخير.
رابعاً، جهاز الاستخبارات ومصير فيدان:
قلة من الشخصيات التركية المحورية وُصفت بأنها “ذراع أردوغان اليمنى”، وقد استحقها بشكل كبير اثنان: أحمد داود أوغلو في الملف السياسي والعلاقات الخارجية و”حاقان فيدان” في الملف الأمني، وقد وصف أردوغان الأخيرَ بأنه كاتم أسراره، وغضب كثيراً حين قرر الاستقالة للترشح لعضوية البرلمان، قبل أن يعيده عن قراره.
وقد تردد اسم الرجل على لائحة المغادرين لمنصبهم مرتين، لدى استقالة داود أوغلو وبين يدي المتغيرات في وزارة الخارجية، بيد أنه بقي في منصبه حينئذ وأشيد به وبأداء جهازه. اليوم، ومع محاولة الانقلاب، ورغم الأداء البطولي الذي وصف به جهاز فيدان، إلا أنه فشل بوضوح في كشف المحاولة الانقلابية وإفشالها قبل وقت كاف، كما أن أردوغان فجر قنبلة غير متوقعة في “مقابلة الجزيرة” حين قال إنه عرف بالانقلاب من “نسيبه” وليس من قائد جهاز استخباراته.
ولم يكتف الرئيس بذلك بل تحدث صراحة عن “ثغرات” في عمل المخابرات وأنها “لو أدت ما عليها وعملت بشكل جيد” لتغير الموقف، وأكد أن “العنصر البشري” أهم في العمل الاستخباري من تطوير التقنيات. لاحقاً، وفي حديثه لقناة تركية قال الرجل ما هو أخطر، حين أشار إلى أنه اتصل بفيدان ليلة الانقلاب لكنه”لم يصل إليه”. !!
وبغض النظر عن تقييم الرئيس التركي لأداء جهاز الاستخبارات وزعيمه فيدان، أهو تأخر أم إهمال أم تقصير أم غير ذلك، إلا أن مستوى غضبه/عتبه واضح جداً، ولعله يشير إلى استبدال فيدان قريباً وإعادة هيكلة الجهاز أيضاً ليصبح أكثر فاعلية.
إذن، تركيا اليوم ليست تركيا قبل الخامس عشر من تموز/يوليو 2016، والمرحلة القادمة لها عنوانان رئيسان: ضبط الأمن ومنع أي اضطرابات من جهة، وإحداث التغييرات الضرورية لمنع أي انقلاب مستقبلي وضمان عمل المؤسسات بالفاعلية القصوى من جهة أخرى. وهي مرحلة بالغة الحساسية تتطلب توازنات دقيقة بين المؤسسات والسياسات والضرورات والأولويات تشبه إلى حد كبير السير في حقل من الألغام، ويمكن القول بكل أريحية بأن مدى نجاح تركيا بقيادة أردوغان في تخطي الأيام الأولى الحرجة من هذه المرحلة سيكون مؤشراً واضحاً على مسارها المستقبلي ومكانتها ودورها على مدى سنوات طويلة قادمة.