هناك نصوص يسوقها من يعارضون الرأي الذي ذكرته في المقالين السابقين، من أن نسبة كبيرة من كفار اليوم لم تقم عليهم الحجة، ولم يبلغهم الإسلام بلوغا صحيحا، ومن هذه النصوص التي استدل بها بعضهم على فساد قولي، قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) البقرة: 146، فهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم والإسلام كما يعرفون أبناءهم، والآية أعتبرها دليلا لي لا علي، فالآية تتحدث عن: (الذين آتيناهم الكتاب)، وهي هنا عن الأحبار والرهبان، وحملة الكتاب، ومعلوم أن التوراة والإنجيل لا يقرؤها عموم اليهود والمسيحيين، بل يقرؤها خاصتهم، كما أن الآية تبين مستوى المعرفة بنبي الإسلام، أي أن المعرفة عندهم به وصلت لمستوى معرفتهم بأبنائهم، وهو دليل على من عرض عليه الإسلام عرضا وصله به بمعرفته كمعرفته بابنه تماما، فهل هذا قائم فعلا مع غير المسلمين؟ يقينا لا.
والنص الأهم في الموضوع الذي يستدلون به هو قوله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار”. والحديث صحيح لا أشكك في صحته، لكن الكلام فيه على معنى (يسمع بي)، فهل معناه هنا مجرد السماع؟! فإن مادة (سمع) في القرآن والسنة واللغة لها مدلولات كثيرة، علينا أن نرجع إليها، ومنها قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة: 6. فالآية هنا تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، بأن من يأتيه من المشركين يطلب إجارته، أن يعطيه الأمان، حتى يسمع كلام الله، ثم ختم الآية بقوله: (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) رغم أنهم محاربون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعون بالإسلام منذ البعثة وحتى نزول الآية في المدينة في غزوة تبوك، فقد تعامل القرآن على أن منهم من لم يسمع بالإسلام سماع العلم اليقيني، وليس مجرد السماع عن عدو لهم اسمه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول العلامة الشيخ محمد رشيد رضا: (المراد الذي يقتضيه المقام أن يسمع منه ما يراه هو ونراه نحن كافيا للعلم بدعوة الإسلام، أو القدر الذي تقوم به الحجة منه، وهو ما يتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله عز وجل) انظر: تفسير المنار (10/160). ولنلاحظ أن الكلام هنا عن الكافر المحارب إذا أراد دخول بلادنا مستجيرا، ليسمع كلام الله، فما بالنا بالمنقطع عنا، ولا يتواصل مع الإسلام، ولا يلتقي به إلا من باب ذمه في وسائل إعلامه؟!
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: (إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلا، فهم معذورون، وصنف بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون، وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضا منذ الصبا أن كاذبا ملبسا اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذابا يقال له: المقفع، تحدى بالنبوة كاذبا، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب) انظر: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي ص: 84.
وهو ما قال به الإمام الطبري في تفسيره (17/403،402)، والزمخشري في تفسيره (2/653)، وابن عاشور في تفسيره (15/52)، وأبو زهرة في تفسيره (5/2463)، وابن حزم في الفصل في الأهواء والملل والنحل (2/466) ورشيد رضا في تفسير المنار (5/411-414)، والقاضي عياض في إكمال المعلم (1/468) وغيرهم.
وإذا كان يكفي مجرد السماع بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة على غير المؤمنين، فلماذا إذن ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يتحاور مع كفار قريش ثلاثة عشر عاما ويدعو الأفراد أنفسهم للإسلام؟ ولماذا كل سور وآيات الحوار والنقاش في القرآن الكريم، إذا كان يكفي أن يقف بينهم محمد صلى الله عليه وسلم ليقول: أنا رسول الله، وبذلك يتحقق السماع، لو كان كافيا لماذا كل هذا الحجاج والنقاش، والحوار وآيات لا حصر لها، نزلت لإقامة الحجة عليهم بكل وسيلة مقنعة؟!!
فهل نستطيع أن نحكم على كل هؤلاء اليهود والنصارى بأنهم سمعوا بالإسلام سماعا كافيا لإقامة الحجة عليهم، ولذا يستحقون الوعيد المذكور؟ ما تفيده النصوص القاطعة بالنفي، وللشيخ محمد ناصر الدين الألباني رأي مهم في الحديث، وفي الموضوع نفسه، أنقله بتمامه في مقالنا المقبل إن شاء الله.
(رجاء) أطلبه من كل من يعقب أو يرد، أن يقرأ ما أكتبه، ويتأمل في الأدلة، ويتعمق في البحث، قبل التسرع باتهام النوايا، أو الحكم بالتضليل، فضلا عن التفسيق والتكفير. فدخول هؤلاء النار لن يزيد من مساحتي أو مساحتهم في الجنة، ودخولهم تحت باب رحمة الله لن يقلل من مساحتي أو مساحتهم من الجنة، إنما هدفنا البحث العلمي النزيه ابتغاء مرضاة الله.