ما بين التصريحات التركية التي تبنت إسقاط المقاتلة الروسية دفاعا عن سيادة وحدود البلاد واستعدادها لإسقاط أي طارئة تكرر ذلك الانتهاك، وبين “حزن” أردوغان على إسقاطها وطلبه لقاءً مع بوتين، بون شاسع قد يوحي لبعض المتابعين بشيء من التناقض والغموض بين موقفين مختلفين، وهو ما يغرينا بمحاولة التعمق في فهم الموقف التركي وفك طلاسمه.
ذلك أنني لا أرى في الأمر تناقضاً، بل موقفاً متكاملاً متفهماً ومتوقعاً في ظل السياسة الخارجية التركية ورؤيتها للأزمة وتقديرها لتفاعلاتها وانعكاساتها، لكن وفق مستويات ثلاث: ما قبل الحادثة، وفي لحظتها، وما بعد ذلك.
فما قبل الحادثة الأخيرة، وبعد عدة احتكاكات بين البلدين على خلفية انتهاك طائرات بدون طيار روسية للأجواء التركية وإزعاج المضادات الأرضية الروسية في سوريا للطائرات التركية، كرست تركيا بالغ جهدها لتجنب الوصول إلى هذه اللحظة، من خلال التواصل مع دول حلف الناتو – باعتبار أجوائها أجواء للحلف أيضاً – ومع السلطات الروسية تهديداً بتفعيل “قواعد الاشتباك” المتعارف عليها بين الدول.
لكن روسيا – فيما يبدو – لم تأخذ التحذيرات التركية على محمل الجد، أو على الأقل اختارت هذا التحدي لغاية في نفس بوتين، فكان الانتهاك الأخير، الذي وجدت تركيا نفسها إزاءه أمام خيارين: إما السكوت والرضى والاكتفاء بالتحذير مرة أخرى وهو ما سيجعل من الأمر عادة ويضيق من هامش مناورتها ويضعف من موقفها الإقليمي فضلاً عن تأثيرات ذلك السلبية عليها معنوياً. وإما الرد الاضطراري بتفعيل قواعد الاشتباك بعد التحذير وإسقاط الطائرة وتحمل نتائج ذلك، وهو ما اختارته القيادة التركية.
بيد أن ذلك لا يعني أن تركيا قد اختارت من خلال هذا “الإسقاط الاضطراري” المواجهة مع روسيا. بل على العكس من ذلك تماماً فقد حاولت أنقرة احتواء الموقف منذ البداية من خلال تأكيدها على أن روسيا كدولة لم تكن مقصودة بحادث الإسقاط الذي لم يكن إلا إجراءً تنفيذياً متعارفاً عليه ولم يكن بالإمكان تجنبه.
لا شك أن الرد الروسي كان نصب عيني صانع القرار التركي، ورغم أن قراراً بالمواجهة العسكرية كان مستبعداً جداً – وإن كان وارداً كاحتمال ضعيف في ظل قيادة بوتين – إلا أن أنقرة حصنت موقفها السياسي – القانوني بسلسلة من الإجراءات لحشر موسكو في زاوية الدفاع، بدأتها بالتحذير المسبق وإعلام دول الناتو، ثم بإطلاع سفراء الدول الكبرى الخمس على تفاصيل الحادث بعده بدقائق، ثم بإعلانها إسقاط طائرة “مجهولة الجنسية” بعد “تحذيرها عشر مرات في خمس دقائق”، ثم بنشرها التسجيلات الصوتية للتحذير إضافة لإثباتات الرادار التركي لصحة الرواية التركية بانتهاك أجوائها، وهو ما ضيق هامش المبادرة أمام بوتين.
والأسباب التركية لمحاولة تجنب المواجهة العسكرية مع موسكو أكثر من أن تحصى وأكبر من أن تجهل، أولها الرؤية التركية في ظل العدالة والتنمية المصممة على تجنب الصراعات المباشرة واعتبارها مضرة ومدمرة سيما وأن التجربة التركية قد بنيت أساساً على القوة الناعمة وتصفير المشاىكل مع دول الجوار، وثانيها الفارق الكبير بين الإمكانات العسكرية لكلا البلدين، وثالثها عدم ثقة أنقرة في مواقف دول حلف شمال الأطلسي وعدم رغبتها في أن تتحول إلى رقعة يتصارع فوقها الطرفان.
أما ما بعد ذلك فيتعلق فقط بتخفيف حدة القرارات الروسية وتسريع التهدئة بين الطرفين. ذلك أن موسكو ذات اليد العليا في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث يميل ميزان التبادل التجاري بينهما (بلغ 31 مليار دولار عام 2014) بقوة لصالحها، من خلال استيراد تركيا لحوالي 55% من حاجتها من الغاز الطبيعي منها، وكون روسيا تحتل المرتبة الثانية في القطاع السياحي التركي، والمرتبة الثالثة بين الدول المستثمرة عقارياً فيها، وغير ذلك من المعطيات الاقتصادية الهامة.
بهذه العلاقات الوثيقة والاعتماد الكبير على موسكو، لم ترد أنقرة أن تتعرض لعقوبات روسية تؤثر على اقتصادها الذي يحاول التعافي من تذبذبه خلال الفترة الانتقالية في ظل ملفات داخلية ضاغطة وإقليم مشتعل بالأزمات. فكان أن تبلور الموقف التركي في:
– التأكيد على عدم استهداف روسيا كدولة، وعلى الصداقة والتعاون بين البلدين.
– رفض الاعتذار باعتبار أن تركيا لم تخطئ بل استعملت حقها المشروع في الدفاع عن سيادة أراضيها.
– محاولة تخفيف الغضب الروسي من خلال التعبير عن “الحزن” لما حصل، رغم “محاولاتنا العديدة لتجنبه”، والتأكيد على أن أنقرة لو علمت أن الطائرة روسية لتعاملت بحذر أكبر وتواصلت مع الروس لتجنب إسقاطها.
– اتصال اردوغان ببوتين (لم يجب الاتصال) وطلب لقاء معه ربما يتم خلال الساعات أو الأيام القليلة القادمة.
– عدم الرد السريع على الإجراءات العقابية التي أعلنت عنها روسيا (في السياحة والتصدير والتأشيرات وغيرها) لعدم تأزيم الأمور أكثر.
– الاستعداد لتسليم موسكو جثة الطيار الروسي الذي قتل في الحادثة، ومحاولة استثمار الحدث لبدء حوار تريده معها.
إذن، لا تريد تركيا مواجهة عسكرية مع روسيا، ولا تريد الأخيرة نزاعاً مسلحاً مع الناتو، بل تعمد كل منهما في هذه الفترة المبكرة إلى رفع حدة الموقف وسقف الخطاب لمغازلة الشارع الداخلي لكل منهما، وهما يعرفان – وخاصة روسيا – أن المصالح الاقتصادية أقوى من الخلافات السياسية، سيما وأنها سلاح ذو حدين يفيد الطرفين كما قد يضر كليهما. فتركيا هي ثاني مستوردي الغاز الروسي، والاقتصاد الروسي يعاني منذ فترة من العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط والأعباء المالية لتواجده في كل من سوريا وأوكرانيا.
وعليه، وفق الرؤية التركية، فإن الانحناء ولو قليلاً لرياح الأزمة حتى تمر بأقل الخسائر الممكنة، بعد إرسال الرسالة المطلوبة ودون التنازل عن مبدأ الدفاع عن السيادة، قد يكون كفيلاً بتبديد فورة الغضب الروسية الحالية لتعود المصالح الاقتصادية وتفرض نفسها بتحسين العلاقات الثنائية بعد أسابيع أو أشهر.
أخيراً، لا يعني هذا كله أن روسيا ستمرر “الصفعة” التركية دون رد، بل سيكون ردها – الذي بدأ فعلاً – على الأرض السورية للأسف، من خلال استهداف المعارضة السورية المحسوبة على أنقرة، والتركيز على التركمان في الشمال السوري تحديداً، وزيادة تموضعها وانتشارها العسكري على الأراضي السورية (منظومة S400 مهمة في هذا الإطار)، ومحاولة تغيير موازين القوى بين النظام والمعارضة في عدة محاور قبل الحديث عن أي حل سياسي وشيك.
وبغض النظر هل استثمرت تركيا الخطأ الروسي، أم خططت روسيا لاستثمار التسرع التركي، أم كان هناك سيناريو معداً من قبل موسكو لاستثمار ما حدث حال حصوله، أم كان الأمر مجرد إجراء لم يمكن تجنبه، إلا أن الحادث وتطوراته المتلاحقة تدفع أنقرة للتفكير عميقاً في الموازنة بين تجنب المواجهة وتنفيس الغضب الروسي من جهة، وبين إشغال واستنزاف موسكو بزيادة الدعم المقدم للمعارضة السورية – سيما الأسلحة النوعية – من جهة أخرى. وهو ما يطرح مجدداً جدل الموقف التركي والقرارات المترددة/المتأخرة لأنقرة في المشهد السوري، فضلاً عن ضرورة تنويع مصادر طاقتها لكي لا تبقى يدها في السياسة الخارجية/الإقليمية مكبلة بالعلاقات الاقتصادية مع الثلاثي روسيا – إيران – العراق.