لطالما كان الفن والأدب ملهمين ومولدين لأفكار تبناها أشخاص، أو استعانوا بها للانطلاق منها نحو تحقيق اختراعات أو استنباط أفكار أكثر عمقاً واتساعاً.
وأسهم الفن والأدب، وفيما بعد الإعلام، وخصوصاً التلفزيون منه، في توجيه سلوكيات جماعاتٍ، إلى درجات تقل أو تكبر، تبعاً لتكرار الرسائل المحددة التي يحملها الفن أو الإعلام واستمراريتها. لكنْ، أنْ يتكرر ما جاء في أحد الأفلام من خلو الشوارع المصرية يوم الانتخابات البرلمانية التي جرت منذ أيام، فتلك سابقة لا تتكرر سوى في مصر. وظاهرة جديدة أخذت فيها مقاومة الشعب المصري حكم العسكر شكلاً جديداً، جديراً بالدراسة، لصعوبة تحقق ذلك على هذه الشاكلة.
من هنا، يذكرنا موضوع فراغ شوارع المدن المصرية من الناس في أيام الانتخابات بفيلم “طباخ الرّيس”، على الرغم من سذاجة فكرته. أنتج الفيلم في فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، ويشخص شخصية مبارك نفسه، ويبين أن الرئيس بريء مما يحصل حوله ويؤدي إلى حرمان لحقوق الشعب المصري، بل إن الرئيس الذي أحس أن هنالك ما لا يصل إليه من أخبار رعيته، قرّر يوماً، على طريقة ملوك القرون الغاربة، الخروج منفرداً إلى شوارع البلاد للاطلاع على أحوال أهلها، كي يحقق ما منعه المحيطون به من فعله. لكنه يفاجأ بخلو الشوارع من الناس، في ظاهرة عجيبة لم تحصل من قبل في بلاد الكثافة السكانية الهائلة، فيتصل بأحد المسؤولين، مدركاً أنه، وبقية الحاشية، فعلوا شيئاً مَنَعَ الناس من الخروج يومها، ليسأله “وديتو الشعب فين؟”. وكأنه يغيب عن رؤوس الأنظمة الديكتاتورية المماثلة لنظام مبارك ما يقع من ظلم على العباد، أو كأنها ليست هي من ينتهج سياسات الإفقار والحرمان والتجهيل بحقهم، هي التي تقبع أجهزتها الأمنية على صدور أبناء شعبها محصية تنفسه.
مؤكد أن الشعب المصري يعلم أن الممثلين الذين سينتخبهم لن يكون لهم دور في دولةٍ يحكمها عسكر وصلوا إلى الحكم عبر انقلاب على رئيس شرعي انتخب ديمقراطياً، وهو إن انتخبهم فسيكرر التجربة التي كانت سائدة في أثناء حكم مبارك، وكان يجري فيها تعظيم دور مجلس الشعب، وتخصص له حصة كبيرة من التغطية الإعلامية، بهدف إعطاء صورة عن مصر،
باعتبارها بلداً ديمقراطياً، لا يجري فيها شيء، ولا يقرر فيها شيء من دون موافقة ممثلي الشعب الذين “انتخبوا ديمقراطياً”. وذلك في وقت كانت عائلة مبارك مسيطرة على كل مفاصل البلاد الاقتصادية، وكانت تُسن القوانين وتُشرّع على مقاسها ومقاس التجار الدائرين في فلكها.
ربما هي ظاهرة فريدة في تاريخ الشعوب أن يلزم شعب كامل منزله في يوم انتخابات، عملت أجهزة سلطة بلاده وإعلامها على الإعداد له والتجييش. كما اتبعت أساليب الترهيب والوعيد، من أجل حض أبناء هذا الشعب على الخروج في هذا اليوم، والتوجه إلى صناديق الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم، إلا أن إحجام شعب كامل عن انتخاباتٍ في بلد ما هي مادة للدرس والتمعن في قدرة الشعوب على إبداع أشكال رفض ومقاومة لسلطةٍ عملت، منذ وصولها إلى الحكم، على الإيحاء أنها مقبولة، هي ورأسها، ومطلوبة من الشعب، من أجل تخليصه من سلطة سابقة.
ومن هنا، وقع العسكر في مصر، في هذا اليوم واليوم الذي تلاه، في ورطة، فهم لا يريدون القول إن الإخوان المسلمين، خصمهم المعلن الذين يتخذون محاربتهم أهم إنجاز ورسالة، هم من حرّض الشعب على الإحجام عن المشاركة في الانتخابات، لأنهم بذلك سيقعون في فخ إظهار أن “الإخوان” يشكلون أغلبية قاموا هم بالانقلاب عليها، وبالتالي، اعترافهم بعدم شرعية حكمهم. إنها ورطة أوقعوا أنفسهم فيها، فلو قالوا إن “الإخوان” هم سبب الإحجام، يكونون قد قدموا سبباً ومبرراً مقنعاً للأمر، ويكونون، في الوقت عينه، قد رفعوا من شأن “الإخوان”. ولو قالوا إنه ليس للإخوان المسلمين دور في تحريض الشعب على الإحجام، باعتبارهم أقلية ليست فاعلة وفاقدة لتأثير كهذا، وبالتالي، أحجم الشعب من تلقاء نفسه. فتكون تلك ورطة أعظم، تبين أن الشعب قد أحجم من دون واعز، وبالتالي، يظهرون أنهم غير مرغوبين من هذا الشعب، الأمر الذي يفقدهم الشرعية.
أراد الشعب المصري، من يوم الانتخابات هذا، أن يكون يوماً لمحاسبة السلطة التي قمعته، وقتلت أبناءه، وزجّت بهم في السجون، واستخدمت كل الأساليب التي وقعت تحت يدها للانقضاض على ثورته. في يوم الانتخابات المصرية تكون قد ضاعت كل جهود الفريق الحاكم في إضفاء شرعية على حكمهم، وتكون كل تلك الجهود قد ذهبت سدىً. فلم تفلح كل أشكال التلميع التي طاولت صورة العسكر، وكل الأخبار حول المشاريع العملاقة والوعود البراقة في تقريب تلك الفئة من الشعب، فهذا الفريق لا يعلم أن الشعوب تمتلك حساً يمكّنها من التفريق بين من يعمل لصالحها ومن يقمعها. وهي قادرة على توجيه رسائل وابتداع أشكال مقاومة، كان الإحجام عن الانتخابات البرلمانية المصرية، في يوم 18 أكتوبر 2015، أنصع أشكالها.