قبل أن تقرأ:
البرادعي يناير 2011 غير البرادعي يونيو 2013، فالأول سقراط والثاني هو السفسطائي.. الأول داعية انطلاق للمستقبل وسلام اجتماعي وتغيير إلى الأفضل، والثاني أداة رجوع إلى الماضي الكئيب ومحرقة مجتمعية وارتداد إلى الأسوأ.
في المناسبتين، كان محمد البرادعي حقيقة ومحوراً، بالإيجاب في الأولى، وبالسلب في الثانية. كان هذا لازمًا، قبل أن أعيد عليك سطورًا نشرتها في يونيو 2012 تحت عنوان “حدوتة البرادعي وخالد سعيد والثورة”.
يبدو أننا في حاجة لإعادة سرد القصة من جديد، ذلك أن الذاكرة اللعوب توقع بعض الرؤوس المنتفخة بزعامة مصطنعة في غواية افتتاح التاريخ، من اللحظة التي جاء أصحابها فيها. ولكي لا يختال علينا أحد بأمجاد وبطولاتٍ لا أصل لها، من المهم وضع حقائق التاريخ المجردة أمام الجميع.
ولو بدأت من الآخر، وتحديدًا قبل النطق بالحكم على الرئيس المخلوع بساعات، ستجده يصبّ نيران غضبه على محمد البرادعي، وفقًا لما جرى تسريبه من المركز الطبي العالمي بقوله إن البرادعي ولّعها واختفى.
أما لو بدأت من الأول، فستجد الآتي: في بدايات 2010، استيقظت مصر على دويّ قنبلة بإعلان البرادعي تفكيره في الترشّح على منصب رئاسة مصر ضد حسني مبارك، شريطة إجراء تعديلات دستورية وقانونية، وهو ما فتح عليه أبواب جهنم، فانطلق هجّامة النظام الساقط يوجهون إليه أقذع الشتائم وأحطّ البذاءات، معتبرين أنه يريد أن يكون رئيسًا بشروطه، وهو ما رد عليه البرادعي، في أول حوار له مع الصحافة المصرية، أجراه الأستاذ جميل مطر في فيينا، بقوله “ما أطالب به يتجاوز مصطلح تعديلات”.
إذا كنا نريد أن نبدأ بداية جديدة وجدية في مصر، يجب أن نتوقف عن الحديث عن “تعديلات” لإزالة عوائق قانونية ودستورية فقط، لأن مثل هذه التعديلات قد تساعدنا في انتخاب رئيس في ظروف نزيهة في عام 2011، إلا أنها تبقى مجرد عملية ترقيع. “المهم ما يأتي بعد ذلك، فالأمر لا يتعلق بشخص واحد فقط، وإنما بمصير وطن”.
كانت هذه الكلمات التي أيقظت حلم التغيير والخلاص من ثلاثين عامًا من الفساد والاستبداد، ورأينا الآلاف يفترشون أرضية مطار القاهرة استقبالا للبرادعي العائد من فيينا، لتنطلق بعدها مسيرة إسقاط نظام حسني مبارك بشكل جاد وعملي، حيث التفت مصر من اليمين إلى اليسار، حول مشروعه للتغيير، ورأينا معارضين منهكين يتخذون أماكنهم تحت ظلال شجرة البرادعي، ملتحقين بقطاره للتغيير.
وفي تلك الأثناء، فجّر شاب من الإسكندرية، اسمه خالد سعيد، بركان غضب شعبي آخر، مدشنًا، بظروف استشهاده على أيدي زبانية التعذيب في نظام مبارك، مسيرة نضال شعبي آخر من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، وحق المصريين في وطن إنساني محترم. وبشكل تلقائي وطبيعي، التقى الرافدان، مشروع البرادعي للتغيير، وانتفاضة الغضب من أجل خالد سعيد، ليكونا، فيما بعد، نهرًا متدفقًا بالرغبة في إزاحة عصر الفساد والاستبداد.
ولأول مرة، تلتقط الأذن المصرية دعوة إلى مظاهرة مليونية، حين قال البرادعي بوضوح، في سبتمبر 2010، إن مظاهرة مليونية واحدة تخرج إلى الميادين ستكون الأولى والأخيرة في عمر نظام مبارك، وكان ذلك ما حدث، مع ملاحظة أن مشروع البرادعي نجح في جمع مليون توقيع على حتمية تغيير النظام.. وجاء يوم 25 يناير، ليتحول ما كان بعضهم يعتبره حلمًا مستحيلًا وخيالًا مجنحًا إلى حقيقة وواقع شديد السطوع، فكانت ثورة أطاحت رأس النظام.
ولا يستطيع أحد أن يسقط من الرواية الدور الذي لعبته تيارات وحركات معارضة متناثرة، منذ بداية العقد الأول من الألفية الثانية. وهنا، تبرز حركة “كفاية” و”6 إبريل” و”9 مارس” وثورة عمال المحلة، غير أن الموضوعية تقتضي القول إن هذا كله تحوّل إلى تيار منتظم بظهور البرادعي وخالد سعيد.
تلك هي القصة باختصار شديد، يجب أن تُذكر، ونحن نحتفل بالذكرى الثانية لاستشهاد خالد سعيد، وبمناسبة العودة الثانية لمحمد البرادعي من فيينا، في وقت يبدو فيه بعضهم، وكأنهم يحاولون تفصيل التاريخ على مقاساتهم…
وبعد أن تقرأ: قد يكون للحديث بقية.