الاصطفاف عملية ممتدة، تستأهل عملا متواصلا لتحقيق الالتئام والتماسك الثوري لمواجهة الحالة الانقلابية والدولة القمعية البوليسية والفاشية العسكرية المتمثلة في جنرالات العسكر الذين انخرطوا في وحل السياسة والحكم ضمن حالة استبدادية وفسادية، تعبّر عن تحالفات الثورة المضادة في محاولة لإخماد ثورة يناير، ومحاصرتها.
قد يتصور بعضهم أن الانقلاب رسّخ وجوده، وأن إحباط القوى الثورية قد طم وعم، وأن حاجز الخوف الذى انكسر عاد مشيداً مثل جدار كثيف من الخوف والتخويف. هذا الوصف يتناسى أن المنقلب ذاته في حالة رعب مقيم، وأن الفساد صار فى رعاية المنظومة الانقلابية، وأن معامل الغضب في الشعب المصري واتساع جغرافيا مساحاته، تشير إلى أن مصر الوطن يعيش مخاض ملحمة ثورية قادمة. يترافق مع ذلك كله خطاب مهم يصدر من قوى وتكتلات سياسية شبابية، عبّر عن نقلة نوعية حقيقية في الخطاب، وضمن إطار محاولات الاصطفاف، فإن معطيات جديدة صبّت في ضرورة هذا المشهد الاصطفافي في الداخل والخارج، يمد مساحات الفعل والفاعلية، حتى مع وجود وتصاعد البطش الحادث في الداخل، والذي أراد أن يقمع ويصادر كل عمل ما من شأنه الاحتجاج على هذه السلطة المستبدة الطاغية والدولة العميقة العاتية والثورة المضادة التي أطلّت برأسها ببجاحة عالية.
مشهد الاصطفاف الثوري كحالة يجب أن نصل إليها، يوجّه أكثر من رسالة لأطراف مختلفة: الأولى للشباب، ووفق هذا المشهد، ينادي المجتمعون والمصطفون على قدرة أن يتصدر الشباب كل مشاهد الثورة المقبلة لعدة اعتبارات: أولاً، أن الشباب هم شرارة الثورة ولحمتها، وآن الأوان لأن يُمَكّنوا ضمن هذا العمل الثوري الممتد. ثانياً، أن معظم التضحيات أتت من الشباب، وحريٌّ بمن ضحى ولا يزال يضحي أن يتقدم المشهد، معبّراً عن مساندته لاستعادة ثورة يناير، وتأكيده على القصاص لكل من سوّلت له نفسه القتل والبطش والحرق والخنق، وكل عمل إجرامي استخف بالأرواح وقدسيتها والنفوس وحرمتها. ثالثاً، أن المشهد الشبابي يمتلك، ليس فقط عناصر الاستحقاق والاستمرارية، بل يملك روحاً وثّابة نقية تعيد إلى الثورة شبابها، وللشباب ثورتهم. رابعاً، أن الشباب هم أصحاب المصلحة الحقيقية في المستقبل، بما يمثلون في الوطن، فهم أكثر من نصف الحاضر وكل المستقبل، ولا يعقل أن يُتصور أو يُبنى مستقبل مصر في غيبتهم أو تغيّبهم. خامساً، الشباب هم أقل الفئات حمولة سلبية، وهم قادرون على تلافي خلافاتهم، والقيام بكل ما من شأنه أن يحقق لحمتهم وتماسكهم.
الشباب هم النواة الصلبة في أي عمل ميداني، وهم القوة الضاربة رمزيةً وحشداً في أي حراك قائم، وأي حراك مستقبلي قادم.
الرسالة الثانية يؤديها لكل القوى السياسية الأخرى التي احتلت المشهد المصري، وتصدرته فترة ليست قليلة، فأنجزت ما أنجزت، إلا أنها ظلت تتفاعل مع الموقف بمعطيات ومفهوم ضرورة أن يقوم هؤلاء “الكبار” أو “العواجيز” بأدوار المساندة والمساعدة والتقصيد، والدفع بهم في صدارة المشهد، حتى يمكن تحقيق الاستمرارية والفاعلية للمشهد الثوري، بما يضمن تحقيق أهداف الثورة وحماية مكتسباتها. وعلى تلك القوى أن تساند وتؤازر هذا المشهد الغالب عليه الشباب، باعتباره يتسلّم راية عمل ثوري، لا يخلو من إسهامات هؤلاء الكبار، كلٌّ في ما يُحسن.
يؤدي الرسالة الثالثة هذا المشهد لهذا النظام الانقلابي، وذلك الغاصب الذي يتربع على عرشه، ومن المفهوم أن العسكر المنقلبين يخافون هذه الكتلة الشبابية، ويعرفون قدرتها. ولذلك، قام هؤلاء بكل أجهزتهم تارة بصناعة الفرقة في ما بينهم، وتارة بالبطش والقمع لتخويفهم، ودفعهم إلى حالة من اليأس في التغيير والثورة.
هذا المشهد الاصطفافي أقوى رسالة لهذا النظام الانقلابي في مصر، وهو إعلان أن الثورة مستمرة تمتلك عناصر فاعليتها من تمسك شبابها بها، وتماسك اصطفافهم، ليعبّروا في نفس واحد عن “لا للانقلاب”، “لا للاستبداد”، “لا للفساد”، وهم يحملون الأمل والهم والعمل للقيام بكل ما يحفّز هذه الثورة، واستعادتها من براثن الثورة المضادة، التي أرادت أن تجهضها، بعدما أجهدت كل عناصرها الفاعلة، وفرّقت بين قواها، ودفعت بعض الشباب إلى زوايا اليأس أو متاهات الحيرة، أو غياهب الخوف والتخوين والترويع. الرسالة تقول “لا” كبيرة في هذا المشهد الاصطفافي.
الرسالة الرابعة يوجهها هذا الاصطفاف لشعب مصر، الحاضنة الشعبية والظهير القوي للثورة المصرية. نعم، استغل هؤلاء كثيراً من نقاط الضعف، في محاولة السيطرة والهيمنة، لكن هذا الشعب الذي يتحرّك يرفض كل ما يتعلق بهذا الانقلاب، تأسيساتٍ وسياساتٍ واستراتيجياتٍ وتطبيقات. آن الأوان أن نهتم بهذا الشعب، احتياجاته وقدراته، آماله ومطالبه، لأن ذلك كفيل بحرث الأرض الثورية لهؤلاء الذين يمثلون ملح الأرض، ليشكلوا طاقة قابلة للثورة وآمالها وأشواقها.
شعب مصر يجب أن يكون الحاضنة الأساسية لملحمة ثورية ممتدة ومستمرة، ومتراكمة ومؤثرة. استرداد هذا الشعب لمصلحة ثورة تحقق قدراً من آماله وتطلعاته ـ الأمل من جانب آخر، هذا وذاك يؤصل في عملية استعداد كبرى للحشد الأكبر في اليوم المشهود، وفي عملية استثمار كبرى لهذا الشعب، وامتداد مساحات غضبه، وجغرافية الغضب التي امتدت وتنوعت، وهذا يشكل أهم مساحات حفز الثورة المقبلة.
وخلف هؤلاء الشباب المتصدّر المشهد الثوري ثلّة من المؤمنين بهذا المسار الثوري وضرورته يعبّرون جميعاً أنهم يصطفون لتكملة المسيرة الثورية، في ملحمتها الممتدة في مواجهة هذا الانقلاب الفاشي العسكري، فقدموا حالة إصرار لا محاولة فرار، وسيقوم هؤلاء، ويقومون دوماً، بكل عمل للحفاظ على الثورة في الداخل والخارج. وهناك من يؤيد هؤلاء في اصطفافهم، ومن كل التيارات في الداخل، لكنهم يشكلون الطاقة الحقيقية في الداخل، ويشاركون ويحفزون هؤلاء الذين لا يزالون بحراكهم يقولون للانقلاب: “لا” للانقلاب وسدنته، “لا” للثورة المضادة وعملائها، “لا” لدولة الفساد والاستبداد.
سيظل الداخل، بما يحمله من طاقات غضب، القاعدة الأساسية لهذه الثورة المباركة. ويعد هذا المشهد للاصطفاف الحر المفعم بأمل التغيير وبناء المستقبل بكل آفاقه وامتداداته، إذ يمتلك فيه الناس حريتهم وإرادتهم في التغيير، فيصطفون على وحدة الهدف والمصير. سيظل هؤلاء، بما يمثلونه من فكرة الثورة، مهما كانت انتماءاتهم، قادرين على إحياء هذه الثورة وحمايتها، أحداثاً ومكتسبات. إنه الاصطفاف لحمةً وتماسكاً بين كل قوى الثورة الحقيقية، وكلمة سرها الشباب.