هل يحدث فعلًا أن تكون رحلة الحج للمسلم خطَّا فاصلًا بين مرحلتين من عمره؟ بمعنى أن ينتقل بالرحلة السامية من حياة التقصير والتفريط والغفلة إلى حياة الوعي والإقبال والتيقظ.
لا أجد أن هذا يحدث بوضوح في حياتي وحياة الكثيرين حولي ممن يتكرر حجهم..
– من مقاصد الحج إحياء التوحيد في النفوس؛ ولهذا كان من شعائر الحج التلبية التي فيها الوحدانية: «لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ». والحج تلبية لنداء الله عز وجل ونداء إبراهيم الخليل، ولهذا حطَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأصنام من الكعبة لما فتح مكة، وجعل يطعنها بعود في يده وهو يقول: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]، (جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ:49]، والكعبة رمز للتوحيد.
– الحج تعظيمٌ لهَدي الأنبياء ومآثرهم عليهم السلام، فمن طبيعة البشر أنهم يحبون أن يكون لهم معالم مشهودة يرونها وينتهون إليها، وهذا أمر جبلهم الله تعالى عليه، فجعل الله تعالى لهم هذه الكعبة التي هي أول بيت وُضع للناس، وأذن بحفظها وبقائها، كما أذن بحفظ القرآن الكريم.
فالبيت الحرام لهم مثابة وأمن وحفظ، أَمْنٌ في أجسادهم وحياتهم، وأَمْنٌ في عملهم وعيشهم، وأَمْنٌ في معتقداتهم وتوحيدهم، وكان آدم والأنبياء من بعده يعرفون مكان البيت، كما هو معروف في الآثار.
وقد جرت سُنَّة الله أن تلك المعالم المقدَّسة المعظَّمة يطالها شيء من الغلو فيها بعد انقراض الأجيال الأولى.
وكثير من الأمم كان أصل رسالتهم ديانة سماوية، ثم دخلها التحريف، فتحوَّلت إلى ديانة وثنية، وأصبحت تماثيل زعمائهم تُنصب في المعابد ويتوجهون إليها بالعبادة، فكان هذا مصدر التخوُّف الذي كان النبي -صل الله عليه وسلم- يخشاه على أمته؛ ولهذا دعا ربه أَلَّا يجعل قبره وثنا يُعبد.
فكان هذا الحج من أعظم المعاني التي تحافظ على الجمع بين المعنيين، الجمع بين تراث الأنبياء وهديهم، وبين تحقيق معنى الوحدانية لله تعالى من جهة أخرى.
– الحج تربية على الأخلاق، والسلام والتسامح والتغافر وحفظ الحقوق؛ لأن اختلاط الناس وتزاحمهم مظنة أن يجور بعضهم على بعض، فجاء الأمر بحسن الخلق، وأن « مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » (البخاري عن أبي هريرة).
فشريعة الحجِّ تربِّي على السلام والتسامح، حتى إن الطير يقع أمام الإنسان فلا ينفَّر.
لقد شاء الله أن تكون هذه البقعة مأمنا حتى للطير في الهواء، حتى كان العلماء يتورّعون عن قتل البرغوث والبعوض ونحوها؛ تعظيما لحرمة البيت الحرام، وكان العربي يرى قاتل أبيه في البيت فلا يُهَيِّجُه، بل يمهله حتى يخرج؛ تعظيما للبلد الحرام.
– الحج تواصل بين الناس وتبادل للمنافع؛ فمكة هي أول مدينة مُعَوْلَمَة يأتيها الناس (مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28،27]، يأتون من كل مكان يتعارفون بينهم ويتبادلون الخبرة والتجربة في شؤون الدين والدنيا، ويستفيدون الجوانب الاقتصادية.
فهذا التواصل في موسم الحج يُوجِب أن يكون للمسلمين مشروع حضاري للتأثير على العالم، وتقديم صورة ناصعة عن الإسلام، فينبغي أن يُلهمنا الحج الشعور بهذه الروح الفاعلة الإيجابية المؤثِّرة؛ لأن هذا الدين لو عُرض كما أنزله الله تعالى على الناس لرأيتهم يقبلونه ويدخلون فيه كما دخلوا فيه أول مرة، ولكنه محجوب بمساوئ أهله، إما بأعمالهم السيئة التي تصد عن سبيل الله، أو بأقوالهم التي لا تكون عليها أَثَارة من علم، ولا يكون فيها الحكمة والبصيرة، أو تخلفهم المعرفي والحضاري.
– الحج تحقيق للمصالح الدنيوية، التي لا يمكن فصلها عن المصالح الدينية؛ ولهذا قال سبحانه فيمَن يريد الحج والتجارة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ) [البقرة: 198].
فالحج فرصة لكثير من البرامج والمشاريع والأعمال المدروسة المخطَّطة للفرد وللأسرة وللشركة وللمجموعة ولأهل مكة ولغير أهل مكة وللحاج؛ بشرط أن يتحقَّق فيها الأمانة واجتناب الغش.
– في الحج قداسة الزمان والمكان، وفيه معنى الإعجاز الربَّاني؛ فإن مكة في واد غير ذي زرع، إِلَّا أن تاريخها يشهد لها بغلبة استتباب الأمن والاستقرار، فهي أم القرى وهي حاضرة عظيمة، وقد حفظ الله تعالى لها هذه المكانة عبر التاريخ.
– جمع الله تعالى في الحج بين ألوان العبادات: البدنية والمالية والفعلية والتَّرْكِيَّة:
فهو عبادة بدنية؛ لأن الحاج يقوم بها ببدنه من طواف، وسعي، ورمي، ودعاء، ونحر للهَدْي.. إلخ.
وهو عبادة مالية؛ لأنه يتطلَّب الزاد والراحلة والنفقة التي تكفيه من خروجه من بيته إلى رجوعه.
وهو عبادة فعلية؛ لأن الإنسان يفعل في الحج أشياء كثيرة من الأقوال والأعمال المشروعة.
وهو عبادة تَرْكِيَّة؛ لأنه يترك محظورات الإحرام حال إحرامه، فهو يُشبه الصيام من جهة ترك المفطرات؛ لأن الحاج يترك المحظورات.
ربِّ تقبَّل حجيج بيتك، ولا تردهم على أعقابهم خاسرين، ولا تجعلهم فتنة للقوم الكافرين.