ملخص: أزمة الشرعية لدى السيسي تتحول بالتدريج إلى أزمة وجود؛ فالسيسي لا يستطيع حتى الآن التمتع بأبجديات أي نظام سياسي متعارف عليه. ورغم القمع والقبضة الأمنية والحكم الشمولي لا يستطيع صنع برلمان ولو كان مزورًا!
السيسي لن يسمح بوجود برلمان يحق له محاسبته وسحب الثقة منه، وإن حدث فسيكون برلمانًا فضيحة، برلمان 2010 نزهة بالنسبة إليه، كما سيكون برلمانًا قصير العمر للغاية. فبرلمان منتخب مع وزير دفاع محصن يعني أن السيسي صار في مهب الريح، وأن انقلابًا عليه من السهل جدًا أن يحدث.
أغلب الظن أنه سيلجأ إلى تعديل الدستور الذي يرى أنه كتب بنوايا حسنة! ربما يقصد السيسي أن من كتب مواد الدستور كانوا حسني النية للغاية، إلى درجة السذاجة والغباء، بأن يظنوا أنه قام بانقلاب عسكري على رئيس منتخب له شعبية عريضة، وسحق مؤيديه في الشوارع والميادين، ووضعهم في المعتقلات والسجون، كي يتنازل للحكم إلى شخص آخر يقف السيسي أمامه ليعطيه التحية العسكرية! أو لكي يأتي ببرلمان يدعي العفة والطهارة ينازع السيسي في الصلاحيات، ويبتزه في كل قرار، وربما يحاكم السيسي على جرائمه، بانقلاب أبيض حذرت منه تقارير أمنية رُفعت للسيسي بداية هذا العام!
***
1- حتى مبارك كان حريصًا على وجود برلمان!
حتى 2005، لم يكن مبارك يواجه أزمة حكم سياسية حقيقية، كان التخوف فقط من التوريث، والإجراءات التي اتخذت تمهيدًا لذلك من تعديل للدستور فهم أنه على مقاس جمال ولده.
وحتى 2010 لم يكن مبارك يواجه أزمة شرعية حقيقة لنظامه.. أما مبارك نفسه فرغم الفساد والاستبداد والعمالة لإسرائيل لم تتعال المطالبات بخلعه وإسقاط نظامه قبل برلمان 2010 سيء السمعة، والذي شهد تزويرًا فجًا.
وخلال فترة حكم مبارك كان حريصًا دائمًا على وجود برلمان ديكوري مصطنع يزين به نظام حكمه الاستبدادي، ولم يحدث أن شهدت سنوات حكمه الثلاثين فترة بلا برلمان، رغم علم الجميع أنه مزور بالكامل تقريبًا.
وكان مبارك يضمن ولاء البرلمان بأوراق ضغط كالتي تكشفت عن حمدي الفخراني ونجل الحريري مؤخرًا، أما تحت القبة فكان يسيطر على النواب عمليًا فترة من خلال كمال الشاذلي، وفترة من خلال أحمد عز.
***
2- صراع الانتخابات بدأ مبكرًا!
منذ الإعلان عن بدء إجراء الانتخابات البرلمانية، تحول الصراع المكتوم بين أجنحة النظام إلى صراع ساخن محموم، علني ومكشوف، وصل لمرحلة الضرب تحت الحزام، بهدف توجيه ضربات استباقية للخصوم لإخلاء دوائر بعينها لأشخاص بعينهم.
فمن غير الخفي أن حمدي الفخراني واحد من رموز الفساد السيسي والمالي منذ زمن، لكن اعتقاله اليوم بهذه الصورة المهينة، في قضية فساد تقدر بخمسة ملايين جنيه، وبتسجيلات صوت وصورة من مباحث الأموال العامة، ليست استفاقة متأخرة لأجهزة الرقابة الغارقة في الفساد من ناحية، وشديدة الولاء للنظام من ناحية أخرى، بقدر ما هو استخدام لورقة ضغط على خصم برلماني محتمل في محافظة الغربية، تمهيدًا لإخلاء الدائرة لشخص ما منتظر.
الأمر نفسه تكرر في الإسكندرية؛ حين تقدم نجل أبو العز الحريري إلى لجنة الانتخابات بأوراق ترشحه، وفوجئ بأن عليه حكمًا بالسجن ثلاث سنوات، وهي أحكام نعلم جيدًا كيف ومتى تخرج في الوقت المناسب. أغلب الظن أن الفخراني والحريري مدانين مجرمين، لكن الأمر لا علاقة له بالعدالة، إنما بالبرلمان المقبل.
***
3- بارانويا السيسي تجعله يخشى من برلمان يمكنه سحب الثقة منه!
لا يمكن التغاضي عن عدم وجود برلمان في مصر لفترة أطول، خاصة مع نظام يعاني منذ اليوم الأول من أزمة شرعية فجة، وتهمة شديدة الوضوح بالانقلاب العسكري المسلح على أول رئيس مدني منتخب كان حريصًا على عودة المؤسسات المنتخبة. وهي الانتخابات التي كان مقررًا لها خلال 60 يومًا من انتخاب رئيس الجمهورية، أي تشكيل مجلس النواب بحد أدنى في أغسطس العام الماضي، لكنها لم تجر حتى الآن، ومشكوك في إجرائها كذلك!
المشكلة أن الغرب يريد أي شكل من أشكال البرلمانات في مصر حتى ولو كان برلمانًا ديكوريًا ومجلسًا مزورًا كما تعودوا أيام مبارك، وهو ما فشل فيه السيسي رغم القبضة الأمنية حتى الآن، وهو فشل غير مسبوق في أي انقلاب عسكري من قبل.
ورغم أن السيسي -الذي أصدر 315 قانونًا في 15 شهرًا- كان قد سبق وأصدر قانونًا يتيح له حل البرلمان المقبل الذي لم يتكون بعد، فإن جنون الارتياب الذي يتملك منه أكثر وأكثر كل يوم يجعله مرتابًا من برلمان من حقه سحب الثقة منه، حتى ولو كان نوابه مختارين بعناية.
فكما ذهبنا في مقال “بارانويا السيسي” فإن السيسي مصاب بمرض البارنويا “جنون الارتياب” الذي يجعله يشك في كل شخص وكل شيء، ويرى نفسه عظيمًا بشكل يحسده عليه جميع الزعماء والرؤساء، فهو “طبيب الفلاسفة” الذي يستمع إليه كل السياسيين والعسكريين وواضعو الإسترتيجيات في العالم، لكنه لسوء حظه محاط بمخاطر جمة، ويرى الدنيا مكانًا غير آمن، ولديه شعب غير مؤهل كي يحكمه شخص مثل السيسي!
وعلى غير الشائع، فإن البارانويا لا تعني جنون العظمة، وإنما جنون الارتياب، والحقيقة أن جنون العظمة هو أحد أنواع جنون الارتياب، وهو نفس ما ذهبت إليه مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، في تقرير لها عن مصر والصادر يوم السبت 23 مايو الماضي عقب أحكام الإعدام الجماعية بقولها:
“الأحداث الأخيرة تؤكد نموذج البارانويا الذي يمثله السيسي.. هذا النمط الذي يتسم بالبارانويا يبدو أنه نتاج رؤية متماسكة بين أجهزة الأمن المنقسمة في مصر، التي تجمعها وحدة الهدف في شن حملة ضد كل أطياف المعارضة السياسية، ويتضافر الجيش والشرطة والمخابرات والقضاء لتنفيذ رؤية الحكومة السياسية، وهو إنجاز بيروقراطي مثير للإعجاب، لكنه ينذر بسوء فيما يتعلق بالإصلاح الديمقراطي”.
أغلب الظن أن الانتخابات البرلمانية لن تتم، وإذا أتى البرلمان فبالتأكيد لن يكون بالصلاحيات الممنوحة له حاليًا في الدستور المكتوب بعد الانقلاب. وأسباب التأجيل المحتمل لانتخابات البرلمان المقبلة، أو تعديل صلاحياته مسبقًا بتعديل دستوري، هي نفسها أسباب تأجيل الانتخابات في مارس الماضي.
فحسب صحيفة “العربي الجديد”، فإن تقارير أمنية تم رفعها إلى السيسي تحذره من انقلاب أبيض قد يقوده بعض رموز النظام المسيطرين على العدد الأكبر من نواب البرلمان المقبل، وذكرت بالاسم نجيب ساويرس، الذي وعد نواب حزبه بنصف مقاعد البرلمان!
واحتمال التخلص من رأس النظام مع الإبقاء على جسده مورست كثيرًا من قبل، وحتى في مصر في 2011، وقد يبدو حلًا مقبولًا لرعاة الانقلاب، يتخلصون به من السيسي كشخص، بعد أن تأكدوا أنه جزء من المشكلة ولن يكون جزءًا من الحل، وفي الوقت نفسه لا تسقط البلد مجددًا في حجر الإخوان، مع بقاء الجيش كقوة عسكرية حامية لمصالح أميركا في مصر، تتدخل إذا أتى رئيس من النوع غير المطلوب من القادة كما حدث في يوليو 2013.
***
4- الرئاسة للهبرات الكبيرة، والبرلمان للهبرات الصغيرة!
العلاقة بين السيسي ومن حوله وصلت في لحظة 3 يوليو وما بعدها إلى المرحلة التقديس، وكان ينظر إليه على أنه البطل الذي أنقذ مصر، وهي الصورة التي صورها الإعلام له بكثافة، مع تأكيد مستمر أن مصر لن تعود لحكم العسكر، وأنه لن يترشح للانتخابات.
لكن مع تبين كذب وعود السيسي، صارت العلاقة بينه وبين شركائه السابقين في تحالف 30 يونيو إلى المصلحة المادية البحتة فقط، دون أية اعتبارات أخرى. وإذا أراد السيسي استغلال فائض القوة الذي لديه (بسيطرته على الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والدعم الخارجي) للوصول للرئاسة، فليس أقل أن يترك لهم البرلمان يغتنمون من ورائه سياسيًا واقتصاديًا!
وإذا كان السيسي يختلف عن مبارك في العقلية والأسلوب، فإن النواب المرشحين لبرلمانه المنتظر لا يختلفون كثيرًا عن نواب برلمان مبارك، بل ربما هم أنفسهم ذات الأشخاص بذات الوجوه القديمة تحت نفس القبة القميئة وإن صار لها اسم جديد “مجلس النواب”!
وهؤلاء “النواب” نشأوا وترعرعوا على معادلة سياسية أنشأها مبارك ورسخها عبر عقود، وهي “دعوا الرئاسة للهبرات الكبيرة، والبرلمان للهبرات الصغيرة”. وهذه المعادلة كانت لا تسبب إزعاجًا لمبارك، بل على العكس كان يستفيد منها، طالما البرلمان مؤيدًا له ولا يخرج عن طوعه، أو ينازعه شرعيته! لكن هذه المعادلة مشكوك فيها الآن، ولا يستطيع السيسي تكرارها؛ لأن البرلمان نفسه مشكوك في ولائه!
***
5- الدستور كتب بنوايا شديدة السوء.. وليس بنوايا حسنة!
الآن يرى السيسي أن مواد الدستور الذي صنعه بلجنة معينة منه شخصيا كتبت بحسن نية، والحقيقة أنها كتبت بنوايا شديدة السوء. فلقد كان هدف هذه المواد كما قلنا إعطاء انطباع أن التحصين المذكور لوزير الدفاع يعني أن السيسي لن يترشح للانتخابات. لكن أما وقد نال مراده فقد بدت الحاجة ملحة لتعديل الدستور حتى تزيد اختصاصاته وتقل صلاحيات البرلمان!
وأغلب الظن أن السيسي حتى كتابة هذا الدستور كان يمارس خطة خداع لا يعرف بها إلا أقل القليل من الدائرة الضيقة المحيطة به في المجلس العسكري، وأسياده في واشنطن وتل أبيب، بغية الوصول إلى الحكم. حتى محمد بن زايد أدلى بتصريح طالب فيه السيسي بعدم الترشح، وهو ما يعني أن ما حدث كان مخالفًا بشكل أو بآخر لما تم الاتفاق عليه. فتحصين منصب وزير الدفاع في الدستور أعطى انطباعًا لكثير من السذج أن السيسي باق في منصبه وزيرًا للدفاع، ولن يترشح للرئاسة.
وكأن السيسي ليس قائدًا عسكريًا خان رئيسه وانقلب عليه، بل زعيم مؤسسة خيرية للانقلابات يقوم بكل الجرائم كي يقطف غيره الثمار! إنها ليست نوايا حسنة بل غباء مستحكم!