لا يزال سؤال المستقبل يدور في أذهان الجميع وإن خفت صوته وتراجعت موجاته، لكن تراجع الحديث عن سؤال المستقبل يعكس نجاحا للحرب النفسية التي شنها معسكر الانقلاب ضد معارضيه عبر بث مجموعة مترابطة من الشائعات تهدف في مجملها إلى تعطيل أسئلة المستقبل بناء على معطيات توهم بالحسم القريب والعاجل.
الشائعات التي لا يجهلها كثير من المنغمسين في الحراك ضد الانقلاب والتي بدأت منذ رابعة عن اقتراب حسم سريع ضد السيسي، أو تواصل داخلي مع قيادات عسكرية ترفض الانقلاب، أو توجيه من هذه القيادات العسكرية للحراك في اتجاهات معينة من شأنها -حسب ما تسرب- أن تخدم الخط المعارض الشريف داخل الجيش، وصولا إلى شائعات عن قرب الحسم خلال شهر كذا .. وانتهاءا بالحديث عن مصالحة مرتقبة.
وقد يذهب البعض إلى كون منح الشائعات كل هذه القدرة هو نوع من المبالغة، ولكن الحاصل أن قدرة الشائعات -تاريخيا وفي أوقات الحروب- معتبرة وذات أثر نفسي قوي، ولذلك يفرد لها داخل أجهزة المخابرات والجيوش ميزانيات وأفراد متخصصون يعملون عليها.
والشائعات التي عمل الانقلاب على نشرها في أوساط المعارضين تمنح المستضعف نوعا من “الأمل” القريب وهي سبب مقنع له لأن يصبر على سلوكه الحالي ويظن به النجاح، فالذي يتوقع حسما قريبا للصراع بأي شكل كان لن يغامر بتغيير نمط لعبه الحالي أو يعيد تشكيل صفوفه وأفكاره، لأن ذلك يعتبر مخاطرة كبيرة قد تفشل الحسم الموعود وفق الشائعة المسربة.
وقد أدرك معسكر السيسي ذلك جيدا فلم تكن تنتهي شائعة وينكشف كذبها حتى يعاود “المدسوسون” بشكل أو بآخر تقديم شائعة وأمل كاذب جديد يبث الروح في نفوس الذين يمتلكون أسلوبا “فاشلا” ميدانيا وسياسيا ، وبالتالي يؤخرون فرصة مراجعتهم لأنفسهم أو مراجعة اتباعهم لهم، مما يعطل فعليا أي اتجاه للتطوير والانجاز ربما ينعكس لاحقا على الحراك وأسلوبه.
وقد يقول البعض أن بعض الشائعات لم يكن يصدر من مصادر موثوقة مما يجعل التعاطي معها أمرا مستبعدا لدى قيادة الحراك أو أفراده، لكني أقول له أن الشائعة لا تحتاج إلى قوة المصدر بقدر ما تحتاج إلى التلاعب بالأمل ، فهي برغم كل ضعفها تترك في النفوس مساحة للترقيب تستمر لشهور ومع كثافة تناولها وتحليلها تتحول لحقائق “نفسية” لا يمكن تجاوزها، فرغبة السيسي في المصالحة أو إحساسه بالتراجع والفشل أو انهياره النفسي أمام الحشود المعارضة أو بوادر انقلاب من قيادة الجيش ضده كلها عوامل تقول للمعارضين أنهم على الطريق الصحيح ولذلك فلا داعي على الحقيقة للمغامرة بتغيير الطريق ونمط اللعب طالما هذا يحقق نتائج.
ومع غياب آليات حقيقية لتقييم الحراك وعدم وجود قيادات مدربة للتعامل مع الشائعات واستمرار وجود بعض السذج ممن حسنت نياتهم وقلت خبراتهم في مراكز حساسة، يستمر الخضوع للشائعة وبالأخص إذا كانت من مصدر مزرع داخل بيئة المعارضين أنفسهم، ومع استمرار سريان الشائعات المتعلقة “بالأمل” في فرج قريب يزيد ثقة الأتباع في عدم الحاجة للإصلاح أو بالأحرى تأجيله لوقت مناسب.
وفي النهاية نصل إلى حالة الإحباط الكبرى التي يعيشها قطاع كبير من الذين بنوا آمالهم على حسم سريع ورخيص الثمن أو حتى صلح يعيدهم إلى الحياة بعد ما قاربوا على الاضمحلال، لذلك إذا كان المشرفون على الحراك من أهل الاستماع للنصح فالواجب عليهم تنقية الصفوف من مصادر الشائعات المترابطة، كما أنه يجب مواجهتها رسميا وبقوة كونها أكبر عملية اختراق ممنهجة تنفذ إلى النفوس وتدمر الهمم!